رحبنا جميعا بالتعديلات الأخيرة التي طرأت علي المواد المتعلقة ببيانات الناخبين داخل قانون مباشرة الحقوق السياسية, وأرست أسس الانتقال بالبلاد من عصر التعامل الورقي في الجداول الانتخابية, إلي عصر التعامل الرقمي عبر قاعدة بيانات الناخبين. وهي نقلة مهمة دعمتها مجموعة أخري من النصوص المعدلة التي أبعدت الأمن عن كل ما يتعلق بقاعدة بيانات الناخبين, ووضعت كل ما يخص هذه القاعدة تحت الإشراف القضائي ممثلا في اللجنة العليا للانتخابات وأمانتها الفنية الدائمة, لكن بعد صدور القانون سارت الأمور عكس ما تنص عليه مواده, فقد تاهت قاعدة بيانات الناخبين بين جهات شتي, حتي تلقفتها قبضة الأمن مرة أخري ممثلة في الإدارة العامة للانتخابات بالداخلية, التي عادت تتصدر الواجهة وتعلن عن أنها تتولي أمورا تخص قاعدة بيانات الناخبين, علي الرغم من أنها لم تعد مختصة بذلك قانونا, بل هناك رواية تتحدث عن أن مصلحة الأمن العام أصبح لها دور في التعامل مع قاعدة بيانات الناخبين, وهذا منزلق خطير يفتح الباب لمأزق قانوني يهدد ببطلان أي انتخابات مقبلة.. كيف؟. القد كان الوصول إلي انتخابات حرة ونزيهة وموثوق بها من الأهداف الأساسية التي قامت الثورة من أجلها, باعتبار أن الانتخابات النزيهة هي الآلية الديمقراطية التي يتم من خلالها تجسيد إرادة الشعب وخياراته علي أرض الواقع, سواء في اختيار نواب البرلمان أو إصدار الدستور أو اختيار رئيس الجمهورية, وتحقيقا لذلك سعت تعديلات قانون مباشرة الحقوق السياسية لتحقيق عدة أهداف, منها وضع العملية الانتخابية برمتها تحت الإشراف القضائي المستقل, وإبعاد القبضة الأمنية عن مراحل الإعداد والتجهيز للانتخابات وفي مقدمتها بيانات الناخبين, وإدماج تكنولوجيا المعلومات في العملية الانتخابية بما يحقق قدر أعلي من الكفاءة والشفافية والنزاهة في إدارة بيانات الناخبين, وذلك اعتمادا علي قاعدة بيانات الرقم القومي كمصدر أولي وحيد لبيانات الناخبين. حققت تعديلات قانون مباشرة الحقوق السياسية الأخيرة هذه الأهداف بنسبة كبيرة تناهز ال80%, وكسرت سيف الأمن الذي ظل مسلطا علي بيانات الناخبين طوال النصف قرن الأخير, وإذا نظرنا جيدا إلي التعديلات الجديدة من منظور تكنولوجيا المعلومات سنجد أمامنا خريطة طريق فيما يتعلق بإدارة بيانات الناخبين, ملامحها كالتالي: 1 الانتقال من الجداول الانتخابية الورقية إلي قاعدة بيانات الناخبين, وهذا عمليا تغيير جوهري في منهجية إدارة البيانات الانتخابية يعتمد اعتمادا كليا علي أدوات تكنولوجيا المعلومات. 2 اعتماد قاعدة بيانات الرقم القومي كمصدر أولي وحيد للبيانات الانتخابية, وجعلها الجهة الأم التي يتم منها توليد قاعدة بيانات الناخبين, وهذا يلغي مباشرة كل ما لدي الإدارة العامة للانتخابات من بيانات وجداول سابقة. 3 جعل اللجنة العليا للانتخابات وأمانتها الفنية الدائمة هي الجهة الوحيدة المالكة لقاعدة بيانات الناخبين والمسئولة الوحيدة عن تلقيها وتسلمها من مصلحة الأحوال المدنية وقاعدة بيانات الرقم القومي, والمسئولة الوحيدة عن إعادة تهيئة وإعداد وتشغيل قاعدة بيانات الناخبين بالصورة التي تلائم متطلبات العملية الانتخابية في جميع مراحلها, بما في ذلك أي متطلبات تقتضيها أي أنظمة أو تعديلات يتم إقرارها علي طريقة تقسيم الدوائر الانتخابية أو النظام الانتخابي للبرلمان. 4 إقرار مبدأ الربط الشبكي بين قاعدة بيانات الرقم القومي وقاعدة بيانات الناخبين الجديدة, لتحقيق التحديث التلقائي المستمر واللحظي لقاعدة بيانات الناخبين تحت الاشراف القضائي من واقع بيانات الرقم القومي كما تنص علي ذلك المادة الخامسة بوضوح, وهذا يلغي دور الإدارة العامة للانتخابات في تحديث ومراجعة بيانات الناخبين. تغطي هذه النقاط المرحلة الأولي من مراحل العملية الانتخابية التي ينص عليها القانون, خاصة في مادته الثالثة, التي توضح اختصاصات اللجنة العليا للانتخابات تفصيلا, وتؤكد بلا لبس أن القانون لا يسند أي صلاحية من أي نوع أو أي مستوي للإدارة العامة للانتخابات بالداخلية او مصلحة الأمن العام أو غيرها في هذا الأمر, بل أن هذه التعديلات تعني عمليا إحالة الإدارة العامة للانتخابات إلي التصفية والاستيداع وإخراجها من اللعبة كلية, ومن ثم فأي تدخل من هذه الإدارة ولو بمجرد الحديث في شئون قاعدة بيانات الناخبين يعد خروجا علي القانون, وافتئاتا علي الحق الأصيل والواضح للجنة العليا للانتخابات وأمانتها الفنية, وإهدارا للمباديء والأهداف التي صدرت هذه التعديلات من أجل تحقيقها, واستخفافا شديدا بالثورة وأرواح شهدائها ومسارها, فقد خرج الشعب وسالت دماء أبنائه في الشوارع من أجل كسر سيف الداخلية الذي كان مهيمنا علي كل شيء بالبلاد وفي المقدمة العملية الانتخابية وبيانات الناخبين. ويمكننا القول إنه بعد هذه التعديلات أصبحت علاقة وزارة الداخلية بالانتخابات محصورة في أمرين: الأول أن مصلحة الأحوال المدنية وقاعدة بيانات الرقم القومي هي مصدر التغذية الأولي الوحيد لقاعدة بيانات الناخبين, ولو نفذ مشروع إعادة هيكلة المصلحة وتحويلها إلي هيئة قومية مستقلة للمعلومات المدنية لا تتبع الداخلية كما ينادي بذلك الكثيرون منذ سنوات, فلن يكون للداخلية برمتها علاقة بهذا الأمر. الثاني هو تأمين مقار الاقتراع والتصويت من الخارج فقط يوم التصويت, وهذه مهمة شرطية أمنية بحتة لا علاقة لها من قريب أو بعيد بالإجراءات الفنية الخاصة بتنفيذ العملية الانتخابية. ما الذي يجري الآن تحديدا؟ المؤسف أن القانون صدر بهذه التعديلات الإيجابية, لكن حتي هذه اللحظة: لم يصدر قرار جمهوري بتشكيل اللجنة العليا للانتخابات بأعضائها الذين ينص عليهم القانون. لم تصدر اللائحة التنفيذية للقانون التي يفترض أنها ستحدد الإجراءات التفصيلية التي نصت عليها المادة الخامسة من القانون إجمالا وأحالتها للائحة, وتتعلق بالإجراءات الفنية لتسلم بيانات الناخبين من قاعدة بيانات الرقم القومي واستخدامها في إنشاء قاعدة بيانات الناخبين وتشغيلها وإدارتها والربط بين القاعدتين وتوزيع البيانات علي اللجان وخلافه, فضلا عن أن اللائحة التنفيذية يفترض أن تحدد الهيكل الإداري والمالي للأمانة الفنية الدائمة واختصاصاتها ونطاق عملها علي مستوي الجمهورية قبل وأثناء وبعد الانتخابات. لم يصدر قرار تشكيل الأمانة الفنية الدائمة للجنة, والذي يفترض أن يصدر من رئيس اللجنة العليا للانتخابات. هذا التأخير غير المبرر في الانتهاء من هذه الإجراءات الثلاثة أدي إلي إعاقة ميلاد المالك الحقيقي لقاعدة بيانات الناخبين وهما اللجنة العليا للانتخابات وأمانتها الفنية الدائمة. وتحت ضغط الوقت والالتزام بإجراء الانتخابات في سبتمبر المقبل قام مسئولو قاعدة بيانات الرقم القومي بتجهيز البيانات الخام الأولية اللازمة لإنشاء قاعدة بيانات الناخبين تنفيذا لنصوص القانون, وبعد الانتهاء من التجهيز اصطدم الجميع بأن المالك الحقيقي المنصوص عليه في القانون لقاعدة بيانات الناخبين غير موجود كما سبق التوضيح, وهنا اختلفت الآراء فيمن يتولي مسئولية قاعدة بيانات الناخبين. والملاحظ أن وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات بوزيرها ومسئولوها لم يتحملوا مسئولياتهم القومية تجاه هذا الموقف, وانسحبوا منه انسحابا سريعا غير مبرر, فلا قامت الوزارة عبر وزيرها بإيضاح الموقف داخل مجلس الوزارء والضغط من أجل استكمال الإجراءات الثلاث السابقة, ولا قدمت مبادرة لإنقاذ الموقف والمشاركة في بناء وتجهيز قاعدة بيانات الناخبين لحين تشكيل اللجنة العليا وأمانتها الفنية, وسبب انسحابها من الساحة فراغا سارع مسئولو التنمية الإدارية بالتعامل معه, لكن الأمر انتهي بفتح الباب علي مصراعيه لكي تطل الإدارة العامة للانتخابات برأسها مرة أخري وتنخرط في التعامل مع قاعدة بيانات الناخبين, والمؤسف أن هذه الإدارة باتت هي الوحيدة تقريبا التي تتحدث عن قاعدة بيانات الناخبين. كيف دخلت مصلحة الأمن العام علي الخط؟ طبقا للمادة7 والمادة20 من التعديلات الجديدة فإن النيابات والمحاكم ملزمون بإبلاغ اللجنة العليا للانتخابات ووزارة الداخلية بالبيانات الخاصة بمن صدرت ضدهم قرارات أو أحكام تؤثر علي حقهم في التصويت, سواء بالحرمان من التصويت أو عودة حق التصويت إليهم, وذلك لاستخدامها عند تحديث قاعدة بيانات الناخبين لتصبح معبرة عن الحالة التصويتية الحقيقية للمواطنين, لكن هذه البيانات وصلت أو ستصل إلي الجهة الحالية القائمة علي تهيئة قاعدة بيانات الناخبين في صورة يصعب معها فنيا استخدامها في تدقيق وتحديث قاعدة بيانات الناخبين المعدة وفقا للرقم القومي, لأن هذه البيانات تخرج من النيابات والمحاكم بأسماء أصحابها فقط دون ربط الاسم بالرقم القومي, ومن هنا كان لابد من جهة تربط بين الأسماء الواردة من النيابات والمحاكم وبين الأرقام القومية لأصحابها, ليصبح من السهل التعامل معها في قاعدة بيانات الناخبين. الرواية المتواترة حاليا تقول إنه تم رفض قيام قاعدة بيانات الرقم القومي بهذه المهمة, فتقرر الاستعانة بقاعدة بيانات مصلحة الأمن العام لأنها تضم أسماء المشتبه بهم والصادر ضدهم أحكام وأرقامهم القومية, وهذا هو الباب الخلفي الذي دخلت من خلاله مصلحة الأمن العام إلي قاعدة بيانات الناخبين بالمخالفة للقانون. ملخص الأمر أن الإدارة العامة للانتخابات ومصلحة الأمن العام يتدخلان الآن في إعداد قاعدة بيانات الناخبين دون سند من القانون, متذرعتين بشعار ضرورات الأمر الواقع, وأي ما كان ما تفعلانه أو لا تفعلانه ببيانات الناخبين فنحن أمام تصرف من جانب من لا يملك في ما لا يستحق, وهذا وضع كارثي, أولا لأن المالك الحقيقي لقاعدة البيانات غائب, ومن يقوم مكانه بينه وبين الشعب جدار سميك من عدم الثقة, بني علي تزوير انتخابي فاحش استمر سنوات طويلة, وثانيا لأن نصوص القانون المعدلة التي أصبحت سارية تتيح لأي مواطن أن يطعن علي إجراءات تجهيز وإعداد قاعدة بيانات الناخبين الجارية الآن, لأنها لا تتم تحت إشراف القضاء أو بمعرفته, وهذا بدوره يهدد بصدور أحكام ببطلان الانتخابات المقبلة برمتها, وقد ناقشت هذه النقطة مع المستشار محمود الخضيري, فأوضح أن نصوص القانون قاطعة, والحكم بالبطلان أمر وارد جدا حال رفع أي دعوي.