تشهد مصر الآن, أعراض ما بعد قوة الدفع الأولي لثورة 25 يناير, وهي أعراض تظهر حين تكون ظروف انطلاق الثورات, تجعل من اكتمالها مسألة تتم علي اكثر من مرحلة. ولقد برهنت تجارب التاريخ علي أن الأمم التي تحدث فيها ثورات تنقلها من حال, أو التي تمر بتحولات تاريخية كبري, فإنها تدخل فيما يعرف بفترة سيولة أوضاع ما بعد التحولات, أو فوضي ما بعد الثورة. لكن هذا ليس أمرا قدريا في كل الحالات, وبشكل عام فإن أعراض ما بعد الثورة, أو التحولات التاريخية, قد تقع نتيجة أوضاع معينة نابعة من ظروف هذه الدولة أو تلك, ويكون من ضمنها علي سبيل المثال: 1 انشغال شركاء صنع الثورة في صراعات علي حساب بقية الشركاء, خاصة اذا لم يكونوا أصلا فريقا واحدا متجانسا. 2 تربص كوادر احتياطية مدربة من النظام السابق, وأجهزته الأمنية, لتوجيه ضربات مضادة, من داخل جيوب غير مرئية, تنفيذا لخطط أعدت مسبقا, للتعامل مع مثل هذا الموقف الجديد, وتتركز أولي ضرباتهم علي إثارة فوضي أمنية. 3 عدم وجود قيادة واحدة متفق عليها, ومسلم لها بالقيادة, تمسك بزمام توجيه حركة الثورة نحو أهدافها. وبالقياس علي ما جري في أعقاب ثورة25 يناير وما ظهر علي السطح من خلافات بين الذين قادوا الحركة المجتمعية الي الثورة, وبين من لحقوا بهم لاحقا مؤيدين, وتبادل التصريحات والتصريحات المضادة يستمد طاقته من بعض أو كل هذه الأسباب. لكن يضاف الي ذلك سبب آخر فيما يتعلق بالحالة المصرية, وهو تأثير الصدمة الثقافية لو صح هذا التعبير لمفاجأة حدوث الثورة في توقيت لم يكن هو المتوقع, رغم وجود اقتناع عام بأنها سوف تحدث يوما ما, وكان وقع هذه الصدمة شديدا بين من لم تكن له أيد مباشرة في اطلاق الثورة في 25 يناير. وكان من نتائج هذه الصدمة الثقافية أمران: أولهما إحساس مجموعات من خارج دائرة صنع الثورة, انها كانت مكبلة بقيود الخوف من النظام, أو باختيار قطاع منها ممالأة النظام, إما طلبا للسلامة, أو للحصول علي مزايا. وكانت النتيجة عقب ثبوت نجاح الثورة, حدوث اندفاع الي مطالب وسلوكيات, تصب في بركة فوضي ما بعد الثورة, وكان رد الفعل لسنوات الحجر علي حركتها, هو الذي يجرفها الي هذا السلوك. الأمر الثاني, ان الصدمة أدت الي تناثر معتقدات, كانت من طول زمن تثبيتها في الأذهان, قد تحكمت في التفكير والسلوك لدي البعض, ممن استقر في ذهنهم أن عليهم طاعة ما يأمر به النظام, وكأنه قدر مقدر عليهم. هذه العناصر كانت تتفاعل مع بعضها, وتحول الساحة السياسية الي معترك لصراعات بين أطراف, كانت مواقفها تتسم بالقوة. وكان يفترض منطقا وعقلا, ان تظل حريصة علي وحدة مواقفها, وان تنحي جنبا الحسابات الذاتية, لأن الثورة مازالت تسير بقوة الدفع الأولي, وهي مرحلة سياسية انتقالية, تسبق مرحلة تحقيق مجمل أهداف الثورة. هذا الصراع يديره البعض من منطلقات لا علاقة لها بالعملية السياسية, في وضعها المرحلي الراهن, ولا بما هو مأمول لاستقرار مصر ومستقبلها ومصلحتها العليا. لأن السياسة هي فن إدارة الاهداف المتعارضة, والتوفيق والتنسيق السلس بينها فإن عليه ان يكون أداؤه حسب قوانينها: وألا يكرر خطايا طريقة إدارة النظام السابق للعملية السياسية. ومن الخطأ أن يتصور طرف ان زمام الحياة السياسية, قد صار ملك يديه. ولا تزال هناك أشياء يعتبر انجازها, حجر الأساس لبناء الدولة, التي خرجت الملايين في كافة أرجاء مصر, من أجل أن تراها, وقد صارت حقيقة دامغة وملموسة, والمثير للدهشة ان المختلفين قد جرفتهم الخلافات الي مسارات بعيدة عن القضية الأهم, وهي أن يخرج منهم مشروع قومي للتقدم الاقتصادي, يرتقي بالمستوي المعيشي, للمواطنين, ويبسط قبضة الأمن علي الشارع المصري. ويفترض ان تكون كافة الأطراف النشطة الآن في الساحة المفتوحة للنشاط السياسي, مدركة عن وعي, أنها مجرد قوي تتحرك وسط بحر واسع وممتد الي مالا نهاية, يجمع الشعب المصري, وهو الأصل, وأنها تمثل ولا تمثل نفسها, وأن هذا الشعب كان قد فقد في ظل النظام السابق, الثقة في العملية السياسية وأطرافها جميعا, فأعطاها ظهره وتركها لهم يعبثون بها, بعد أن أدرك أن الغالبية العظمي من اللاعبين في الحلبة السياسية, يباشرون عملهم لمصالحهم الخاصة, ودون ان يجد لنفسه مصلحة فيما يجري, الي أن جاء اليوم الذي أطاح فيه بالنظام السابق. ومن الطبيعي أن تكون هناك تنظيمات وأحزاب وتوجهات, تختلف عن بعضها لكن ما يجري هو تشتت صنعته كثرة ملحوظة لأعداد اللاعبين, من أحزاب, وجماعات, وأطراف بعضها بلا هوية, وبعضهم ممن ينتمون للنظام السابق, ويتسترون تحت لافتة الثورة, وهو ما يدعو للتساؤل: أليس مما يفيد العملية السياسية, هو تلاقي مجموعات من الأحزاب التي تقترب برامجها من بعضها فوق أرضية مشتركة, تجمعها معا في تكتل أو ائتلاف حزبي؟ ثم حين يلفت النظر تعدد المجموعات التي أطلقت شرارة ثورة 25 يناير, أليس أفيد لهم وللوطن انخراطهم في تكتل حزبي من أصحاب الخبرة, والمواقف الوطنية الصريحة في رفض النظام السابق وفضحه؟ تساؤلات يدفع بها الي العقل, تأمل المشهد السياسي الراهن في مصر. المزيد من مقالات عاطف الغمري