منذ البداية ومن الأيام الأولي لثورة52 يناير, ووجود حكومة أحمد شفيق المختارة من الرئيس السابق, والمراوغة الرئاسية, ما بين مطالب التنحي, والرغبة المزمنة في الامساك بقبضة السلطة, وحتي مجيء يوم الخضوع لحتمية الرحيل في 11 فبراير, فإن ثورة 25 يناير كانت تواجهه حصارا يدفع بها إلي مأزق سياسي, بينما قواها تحمل اصرارا علي الخروج إلي فضاء الحرية, والخلاص من كل سوءات الماضي. هذا المأزق السياسي, صنعه وجود تناقض حاد بين منطق تفكير الذين قاموا بالثورة, وبين من ظلت في أيديهم مقاليد إدارة شئون البلاد, والذين كان لديهم انكار لكون ما جري ثورة, والسعي لغرض معايير تعاملهم معها, وكأنها حركة تصحيحية وكفي. وكأن التصرف بمنطق ومعايير الثورة هو الطريق, إلي حل التناقض, وإنهاء هذا المأزق السياسي. فالتصحيح له مفاهيم وأهداف, والثورة لها مفاهيمها وأهدافها. .. التصحيح يبقي علي أركان الوضع القائم علي ما هي عليه, باستثناء التخلص من رؤوس النظام, والتخلي عن بعض المبادئ والسياسات, مع المحافظة علي البعض الآخر. في حين أن الثورة وفي حالة مصر علي وجه الخصوص قامت من أجل بناء دولة ديمقراطية حديثة.. دولة قانون, تطبق مباديء العدالة الاجتماعية, في مناخ جديد ومختلف. لكن ذلك لا يمكن أن يتم, قبل أن تمهد له اجراءات نزع جذور الفساد السياسي, الذي كانت الدولة تدار به, والذي برهنت تصرفات النظام السابق وقراراته, علي أنه تأسس علي مبدأ هدم الدولة, واقامة منظومة مصالح, انفصلت تماما عن الشعب وهمومه المتصاعدة, ومطالبه واحتياجاته, وانغلقت عقلا وسلوكا, علي خدمة هدف رأس النظام, وابنه, وأسرته, والمجموعة المستفيدة المقربة منه, والتي تم انتقاؤها بمقاييس تخصه هو, ولا علاقة لها بعلم وفن الحكم والسياسة. وأدلة الاتهام علي ذلك لا تعد ولا تحصي منها علي سبيل المثال: إن النظام كان معاديا لفكرة الانتاج, متوسعا في الاستيراد, هادما لمفهوم الأمن القومي, الذي استبدله بمبدأ أمن النظام, وشتان ما بين الاثنين, والأمثلة عديدة لا نهاية لها. لقد وضع النظام السابق, الدولة والمواطن داخل أسوار, من هياكل تحمل مسمي مؤسسات, ولا علاقة لأي منها بدولة المؤسسات, كما ينبغي أن تكون, والتي تصون كرامة المواطن, وتحمي وجوده وحقوقه, وتحقق أمانيه وطموحاته, وركز نظامه جهوده علي التعامل مع شعبه وقضاياه, وأموره المعيشية, باستخدام ذراعه الباطشة أمن الدولة, الممثل الرسمي لمبدأ أمن النظام. وهو وضع من شأنه السعي لإنزال الهزيمة النفسية بالمواطن, ومن المعروف أن المواطن المهزوم, لا يصنع مستقبلا, ولا يرتقي بوطن. كان النظام حريصا علي تكاثر الظواهر السلبية والرديئة, وظهر ذلك واضحا في استقطابه للعاطلين من الموهبة, لأصحاب الأمية السياسية, ودفع بهم إلي مقدمة الحياة السياسية, ونبذ الاكفاء, أصحاب الرأي المستقل الذي لا يبغي إلا مصلحة الوطن, ودفعهم للانزواء بأفكارهم وقدراتهم, كأنهم منفيون داخل وطنهم, أو للهجرة حينما وجدوا أن الدولة أصبحت طاردة لأفضل أبنائها. وظهر ذلك واضحا في اعراض الناس عن الحياة العامة واعطاء ظهورهم للعملية السياسية, وهو ما أثبتته معدلات المشاركة في الانتخابات البرلمانية والرئاسية منذ عام 2005, والتي تراوحت نسبة المشاركة فيها ما بين 15% و24%, بينما كانت نسبة المشاركة في آخر انتخابات برلمانية قبل ثورة يوليو في يناير 1952, هي 60.62% كما سجلتها وزارة الداخلية. كانت الأمية السياسية للنظام تظهر واضحة, عندما كنا نسمع قياداته المختارة, وهم يتحدثون في الشئون العامة داخلية وخارجية. ويتكشف من كلامهم عدم الفهم للسياسة, أو المعرفة بالشأن العام, من ذلك مثلا ما يختص بفهم خصائص الشخصية القومية للمصريين, أو فهم التحولات الجارية في العالم, وتجارب الدول الأخري, وما يجري من تغيير في المفاهيم والنظريات السياسية والاقتصادية. بل إن بعض المتخصصين منهم والفاهمين للسياسة وعلومها, وتطبيقاتها, قد غلب عليهم حبسهم داخل أسوار النظام, فانطبع فكره علي لغة خطابهم, وبحيث كانوا يعطون شروحا وتفسيرات, لما يجري في مصر علي سبيل المثال من حنق وغضب, واحتجاجات, لا علاقة لها بالتفسير الواقعي والتاريخي والعلمي لما يحدث. إن وضع الأمور في نصابها, بالتصرف وفقا لمفهوم أن ما جري في مصر, ثورة وليس مجرد حركة تصحيحية, يقتضي وضع جدول أولويات للمرحلة التي تمر بها مصر الآن.. وجدول أعمال لا يغمض العين عن الجذور السامة التي غرست في تربة الحياة السياسية والاجتماعية, وتطهير الأرض, قبل البناء عليها, وإلا كنا كمن كان يبني علي أرض رخوة لا تتحمل بناء. ومن المهم أن يوجد دليل ليكون هاديا, للقرارات والسياسات, وهو الرضا العام, فليس هناك في الدول الديمقراطية العريقة أو الحديثة, نظام يتجاهل الرضا العام الذي هو سند بقائه وشرعيته, وقدرته علي أن يحكم ويقود وطنا وشعبا. المزيد من مقالات عاطف الغمري