عند عودته إلي وطنه بعد انتصاره في الحرب, واجه البطل اليوناني أوديسيوس حشدا من المخاطر المتلاحقة القاتلة, ظلت هذه المخاطر تحاصره, فأفضت إلي إقصاء وصوله إلي وطنه عشر سنوات كاملة, في خلالها عاني مشاعر الاقتلاع من الجذور. ومشاعر الوحشة إلي الوطن, لكنه لم ينس, أو يبرحه حنين يبتغي العودة إلي وطن مودع في أحشائه, وطن لا يحتاج إلي من يعيد إنتاجه في داخله بالحديث عنه واستعادة تذكره, فهو يعمل بذاته, وحضوره الدائم رغم المباعدة يخاصم معني تذكره, إذ بقدر ما كانت المخاطر تلاحق أوديسيوس, وتتعدد الأماكن التي يجوبها, وتتنوع جغرافيا وتختلف, كان يلح وعيه بهويته, وحنين العودة الذي لا يمكن قياسه أو حسابه أو إنهاؤه, وبالتوازي مع التمزق الوجداني الذي يعانيه أوديسيوس كانت تشتد ضراوة عقبات عودته, إذ تتبدي كأنها تستهدف أن تضع خاتمة تمنعه من الوصول إلي الوطن, ومن أخطر المواجهات هولا تلك التي شنتها ريح عاتية, حطمت سفينته, وأغرقت جميع رجاله, فأصبح محروما من أي رد, مجردا من كل أدواته ورجاله, لكنه أمسك بحطام السفينة, وبعد أيام قذفته الأمواج إلي جزيرة الحورية الساحرة كالوبسو, التي احتفت بوصوله, ثم هامت به, واستبقته معها لينخرط في حياة مغايرة علي جزيرتها في ظل سلطاتها الفائقة, وإمكاناتها الخارقة, لكن الانطباع العابر, أو الاستيهام, او وسائل خلب اللب, لا ترتوي بها بديلا مشاعر احتضان الوطن, لذا اصر اوديسيوس علي الرحيل اشتياقا الي وطنه, رافضا هوية الاستيطان الممنوحة له, فهو لا يفقد الامل في الوصول اليه, وعلي ثقة بقدراته. اصرت الحورية الساحرة كالوبسو, ان تسقط كل خطوط دفاعه, ليستسلم لاغواء يصدع قناعته بهويته, فيخرجه من شرطه الانساني, ويفصله عنه, فقد وعدته بالخلود والشباب الابدي ان بقي معها, وتخلي عن قضية استئناف الوصول الي وطنه. بالطبع ان هذا العرض سوف يغير افق حاضر اوديسيوس ومستقبله, ففي ظل ذلك التغيير الخارق والاستثنائي, لن يستطيع العودة الي وطنه ليعيش بين اهله, فهو سوف يتحرر من مفهوم جوهر العالم, بوصفه مقر الزوال والتغيير, حيث لن ينتهي وجوده عند حد من الزمن مثل البشر جميعا, فهو لن يعرف الموت, وايضا سيتخطاه الزمان الكوني, وزمان التقويم, حيث لن يشيخ او يفسد او يتغير, وسيظل شابا الي الابد لكن اللافت جدا هو رفض اوديسيوس للعرض الذي وعدته كالوبسو به تري هل رفض اوديسيوس العرض المقدم اليه, لانه يحرمه احساسه بجوهره الانساني, لكنه يمارس كل الممكنات سلبا أو إيجابا ويتحمل مسئولية أعماله ومصيره, لذا أعلن استمساكه بجوهره الإنساني بوصفه كائن التطلع والإنجاز؟ تري هل رفضه يعني إعلان حقه في الدفاع عن حريته الإنسانية, ضد كل المشروطيات التي تفرض في شكل إغراءات, وتطرح لتذيب الإرادة, وتسيل الرغبة إقصاء لفعل الحرية في التطلع وممارسة الوصول إليه, لذا جاهر بأن من حق الإنسان ألا يقصي عن الوصول إلي ما يتطلع إليه, إذ لا معني لحياة تخلو مما يمكن للإنسان التطلع إليه بمحض رغبته؟ ورحل أوديسيوس علي متن زورق, ممارسا فعل الحرية في الوصول إلي ما يتطلع إليه, صحيح أن العقبات لم تتوقف, لكن الصحيح كذلك أن أوديسيوس أنجز ما تطلع إليه بالعودة إلي وطنه, برغم كل العقبات والاخفاقات. إن شاعر اليونان العظيم هوميروس في القرن الثامن قبل الميلاد, استقي من العصر الاسطوري زمن الخرافات والأوهام ومن وقائع القرن الثاني عشر قبل الميلاد, أحداث ملحمته الشهيرة الأوديسا التي تحكي مغامرات أوديسيوس في طريق عودته إلي وطنه, صحيح أنه تتعدد مشاهد المعارك التي تكشف عن بطولة أوديسيوس لكن يتفرد ذلك المشهد الكاشف عن معني نبيل, أكد أن استحقاق الإنسان في حياته, ألا يعيش مغتربا عن جوهره, بوصفه إنسانا, والا تحصر أو تحاصر خياراته في الحياة, فيقاد إلي مصير لا يرضاه, وألا يختلق له مصير يخرج به عن شعوره بجوهر استحقاقه الإنساني, ويحرمه بشروط إشباع ذلك الشعور, إذ تبدي هذا المعني في سلوك أوديسيوس حين رفض الخلود, والشباب الأبدي, لاشك أن أدويسيوس ربط معني قرار رفضه وقيمته, بشعوره بجوهره الإنسان في مواجهة إغراءات تمنحه عوامل القوة الخارقة, لكنها في الوقت نفسه تستلب منه, وتستأصل من قلبه شعوره الإنسان, بجوهره ككائن متناهي الوجود, ولاشك كذلك أن أوديسيوس قد استشعر أن تلك الإغراءات تنهي تاريخه الإنساني, وتنتزعه من فطرته, وتفصله عن مجتمعه, وتعزله عن عالمه وجنسه, وتحرمه متابعة التعايش مع الآخرين, لذا أصر أوديسيوس علي أن يكون إنسانا, بوصفه كائن الحرية, والأمل, والتطلع, والوصول, والإنجاز, مهما كانت إخفاقاته. وتاريخيا لم تستمر هذه الاستحقاقات حكرا علي الأبطال, أو الحكام, أو بعض الطبقات والفئات المعدودة, بل صارت استحقاقات يمارسها كل الناس العاديين, الذين شقوا طريقهم لاكتساب مفردات استحقاقاتهم, بوعيهم بتجانسهم, وجوهرهم الإنساني المشترك, وإدراكهم أن هذه الاستحقاقات تتجاوز الأفراد والجماعات المعدودة, وتتسع أكثر لشركاء آخرين, هم البشر جميعا, بلا تمييز, لذا راح الناس لا يكفون عن معانقة العالم تطلعا, ووصولا, وإنجازا, ولا يعترفون بحياة تخلو مما يتطلعون إليه, وقد كثف جوهر هذا المعني كاتب جواتيمالا المعاصر أوجستو مونتيروسو في قصة قصيرة جدا بعنوان الجنة الناقصة ذات حدث بسيط, ومن أربعة أسطر, إذ تحكي القصة أنه: ذات مساء شتوي بارد فكر رجل مع نفسه, دون أن يحيد ببصره عن نار الحطب التي يتدفأ عليها: من المؤكد أن في الجنة أصدقاء وموسيقي وكتبا, لكن المرء عندما يصعد إليها, لن يري بعد ذلك سماء يتطلع إليها إن الكاتب يطرح استحقاق التطلع, بوصفه حقا إنسانيا حتي في الجنة, فيستحضر بذلك المكان الغائب والمرجأ, ليؤكد أن التطلع شرط إنساني جوهري, ينتقل مع الإنسان ويسكنه في كل فضاء, حتي في المكان المستحيل, ويصطنع الكاتب استحضاره للمكان بشكل مقلوب, مستخدما مفارقة التداخل بين الغائب والموجود, لكن غايته إضاءة الواقع الأرضي المشهود, إذ الإحالة إلي غير الموجود, وعدم الإفصاح عن تحديد المقصود, يفتح حوارا يؤسس لحضور الحاضر ومساءلة الموجود. صحيح أنه علي امتداد دورات الحضارات, عقلنت المجتمعات تلك الاستحقاقات في إطار مفهوم حقوق الإنسان لمواجهة الحرمان من ممارسة هذه الحقوق, بوصفها قيما مجتمعية, تتطلب مسارات متاحة للبشر لبلوغ تلك الحقوق, وصحيح أيضا أن الحرمان من ممارسة تلك الحقوق, واستمرار ممانعة الوصول إليها, يؤديان إلي سلوك التنافر, والتحلل من الضوابط, والصراع, لكن الصحيح كذلك أن المبدأ الإنساني العام للحق هو احترام حقوق الآخرين, وهو ما يعني أن أفراد المجتمع يتمتعون بحصانة المواطنة الكاملة, التي تضفي شرعية علي حقوق الحريات العامة, والمشاركة, والعدالة, حيث لا تحمي حقوق, وتنكر حقوق, ولا يسمح لأصحاب أي نوع من الارتباط, أو الاعتقاد أو الإيمان, أن تكون لهم أسبقية حماية, أو تفضيل, أو يمارس ضدهم الاضطهاد وانتهاك الحقوق, إذ إرادة الفرد في المجتمع لا تتسم بالحرية إلا بمقدار ما تتفق أفعاله مع حقوق الآخرين, لاشك أن غياب استحقاق المواطنة وعدالة الاستحقاق, يشكل تهديدا بتشرذم المجتمع, وتآكل الشعور بالهدف المشترك, وعلي الحقيقة, فإن مصر فيما يخص ملف الأقباط كانت تعيد تشكيل أسئلتها عن واقعها في ظل مستجدات زمانها, فقد طرح في عصر محمد علي سؤال عن المساواة, كانت إجابته إصدار قراره بإحلال حق المواطنة علي أبناء الوطن جميعا, محل العلاقات الطائفية والدينية, ومساواة المسيحيين الداخلين في الخدمات الميرية بمزايا المرتب المدنية, وطرح رائد التنوير الطهطاوي سؤالا عن تأسيس وطن المعني, كانت إجابته مشروعه الثقافي والفكري لمجتمع مدني متعدد, ثم طرح في عصر سعيد باشا سؤال عام,1855 عن خارطة دوائر العزلة, وكانت إجابته قرارا بإلغاء الجزية, واستحقاق الأقباط أداء الخدمة العسكرية, وفي عام1866 عندما أنشأ إسماعيل باشا مجلس شوري النواب, طرح سؤال عن المشاركة كانت إجابته انتخاب المصريين لعدد من المسيحيين أعضاء في المجلس, صحيح أن الاحتلال البريطاني قد أضمر تسييس قضية الاقباط, وتوظيفها لصالحه, لكن الصحيح أيضا أن أقباط مصر مع مسلميها تصديا ضد سلطات الاحتلال, التي أصدرت حكما بالإعدام عام1922 علي سبعة من زعماء الحركة الوطنية, هم: ويصا واصف, ومرقص حنا, وواصف غالي, وجورج خياط, ومراد الشريعي, وعلوي الجزار, وحمد الباسل, وعندما تسلمت الولاياتالمتحدة من بريطانيا ملف الأقباط, إذ بها عام1998 تدرج الأقباط المصريون علي قائمة الأقليات الدينية التي يحق لها مساعدتها في الدفاع عن وجودها ومصالحها, تري أليس علينا أن ننتبه معا مسلمين وأقباطا لتاريخ ما يحاك ضدنا, وأن يكون رهاننا هو المواطنة التي عندما تنفتح بوابتها تذوب فيها كل الانتماءات الأخري, فلا تولد فتن, ولا تفرض وصاية مرجعية خارجة, ولا تقبل وعود الساحرة كالوبسو وعندئذ نهتدي معا إلي ما يمكن أن نتطلع إليه في هذا الوطن.