دخلت إلي المبني الرئيسي لكلية الآداب التي أنتمي إليها, ولا أزال أعمل بها, ووصلت إلي السلم الرئيسي الذي يقودني إلي الطابق الثاني, ورأيت تمثالا نصفيا لطه حسين, فتذكرت أنه قاد حركة تحرير الفكر الأدبي والاجتماعي,في أثناء عمله أستاذا في الكلية ثم عميدا لها. وكان واحدا من طليعة أساتذة كلية الآداب الذين تتابعت أجيالهم, ولا يزالون منارة مضيئة للفكر العقلاني المستنير, والمنهج العلمي المتجدد, والرغبة المتوثبة في التجريب وعدم الاستكانة إلي السائد الجامد, واستدرت مع درجات السلم صعودا إلي الدور الثاني, فواجهني باب مجلس الكلية, تحيط به صورتان كبيرتان لسيدتين الأولي لأستاذتي سهير القلماوي أما الصورة الثانية فللأميرة فاطمة إسماعيل. والحق أنني كنت أشعر بامتداد جذوري, وأنا أخطو في ردهات الدور الثاني من الكلية التي أفخر بالانتماء إليها وإلي جامعتها, ولذلك لم يكن من الغريب أن أصل بين شهداء ثورة يناير من الشباب سنة2011 وشهداء الجامعة وغمرتني مشاعر بهيجة لتذكري تدفق الدماء الشابة المتمردة علي الجمود في الكلية, والتي قامت بتجربة واعدة في كلية الآداب, تجربة تثبت أن روح ثورة يناير قد انتقلت إلي الكلية التي أخذت علي عاتقها تقديم تجربة رائدة, أرجو أن تقتدي بها كليات جامعة القاهرة وكل الجامعات المصرية. وتبدأ التجربة من وعي أعضاء هيئة تدريس الكلية, خصوصا الشباب, بضرورة تقديم نموذج جديد لاختيار عميدهم, ووافقهم علي هذا الوعي وتحمس له عميد الكلية الأستاذ الدكتور زين العابدين أبو خضرة الذي تنتهي فترة توليه العمادة في الحادي والثلاثين من يوليو المقبل وتوافق الكثيرون, خصوصا شباب الأساتذة والأساتذة المساعدون وأغلبية من المدرسين, علي أن يعودوا إلي النظام الانتخابي للعميد, حتي إن كان القانون49 لسنة1972 بشأن تنظيم الجامعات, قد أوكل صلاحية تعيين العميد إلي رئيس الجامعة لكن هذا الوضع القائم لم يمنع العقول التي أدركها تأثير ثورة الخامس والعشرين من يناير من إقامة انتخابات للعمادة, يشارك فيها الجميع من أكبر أستاذ إلي أصغر مدرس, تكون بمثابة استطلاع رأي لأعضاء هيئة التدريس في تحديد العميد الذي ترتضيه الأغلبية. واجتمع أغلب أعضاء هيئة التدريس, وتوافقوا علي أن يكون يوم السبت الماضي الحادي عشر من يونيو يوم الانتخابات, وتم فتح باب الترشيح قبلها بمدة كافية, وتشكلت لجنة من كبار الأساتذة الممثلين لأقسام الكلية المختلفة, مشهود لهم بالنزاهة والحياد, للإشراف علي العملية الانتخابية, وصحبني عميد الكلية إلي قاعة الانتخابات وذلك بصفته أستاذا في الكلية وليس بوصفه عميدا, ووقعت في كشف الحضور, وتسلمت ورقة بها الأسماء السبعة للأساتذة الذين ترشحوا, وأعد كل منهم برنامجا, قرأناه علي النتب أو أرسل إلينا بالبريد وقد أفرحني أن عددا غير قليل من برامج المرشحين تدعو إلي استقلال الكلية بقراراتها, وعدم التدخل القسري في شئونها من أي سلطة غير جامعية علي وجه التحديد, وعلي نحو يحقق للكلية إمكانات النمو الذاتي داخل نسيج الجامعة كلها واخترت الاسم الذي رأيته أفضل الأسماء لإدارة الكلية في هذه المرحلة, معتمدا في الاختيار علي إمكانات الكفاءة الإدارية والتميز العلمي الذي يقترن بالنزاهة والحيدة ولم أنس ملاحظة الصندوق الزجاجي المخصص لوضع أوراق التصويت مطوية, بعد أن يقوم الناخب بوضع علامة علي الاسم المختار وراء ستار وكان كل ما رأيته من عملية التصويت مفرحا إلي أبعد حد, ويدعوني إلي الفخار بشباب أساتذة أعضاء هيئة التدريس في الكلية, وشيوخها الذين تقبلوا الفكر الجديد لشبابهم, وشجعوا علي المضي فيه, لأنهم وجدوا فيه تجربة رائدة. واستمرت الانتخاباتفيما علمتمن العاشرة صباحا إلي الخامسة مساء وبعد الفراغ, تولت اللجنة المشرفة فرز الأصوات التي خرجت كالتالي: راندا أبو بكر من قسم اللغة الإنجليزية وحصلت علي ثلاثة وسبعين صوتا, وعصام حمزة وكيل الكلية لشئون المجتمع بعدد تسعة وستين صوتا, ومحمد نجيب الصبوة من قسم علم النفس وحصل علي ثمانية وخمسين صوتا, ومصطفي النشار رئيس قسم الفلسفة علي اثنين وخمسين صوتا, وشريف فاضل رئيس قسم المكتبات علي ثمانية وعشرين صوتا, ومحمد عفيفي رئيس قسم التاريخ ثلاثة وعشرين صوتا, وسعيد توفيق رئيس قسم الفلسفة علي ثلاثة عشر صوتا. وكان عدد الذين أدلوا بأصواتهم من أعضاء هيئة التدريس ثلاثمائة وتسعة عشر صوتا(319) وذلك من مجموع أعضاء هيئة التدريس الذين يصل عددهم إلي أربعمائة وثلاثة وسبعين عضوا, ويعني ذلك أن نسبة من حضر الانتخاب من العدد الإجمالي لأعضاء هيئة التدريس تزيد علي80% وهي نسبة عالية, تدل علي الحماسة لفكرة انتخاب العمداء في الجامعة وإذا أخذنا كلية الآداب جامعة القاهرة, بوصفها عينة دالة, فالعينة تؤكد بوضوح أن أغلبية أعضاء هيئة التدريس مع مبدأ الانتخاب الذي هو مبدأ ديمقراطي أصيل, خصوصا ونحن نطالب بدولة مدنية ديمقراطية حديثة لقد أثبتت كلية الآداب, ويشرفني أن أكون أستاذا فيها, أن الديمقراطية هي طريق التقدم الواعد. ولقد أصبح أمام رئيس جامعة القاهرة نموذج ناجح وتجربة رائدة, تعينه علي اختيار العميد المرضي عنه من زملائه وليس من جهات لا علاقة لها بالجامعة وأصبح أمام وزير التعليم العالي تجربة ناجحة, تؤكد له ضرورة تعديل القانون49 لسنة1972 بطريقة تتناسب مع التوجه الجديد لتغيير أحوال الجامعات والارتقاء بها إلي ما يقيلها من عثراتها, ويخرجها من كهوف التخلف التي فرضت عليها. ومن المؤكد أن أعداء النجاح وأنصار محلك سر سيجدون مغمزا في هذه التجربة وقد يقولون إنه لم تتح الفرصة لإمكان الطعن علي هذا المرشح أو ذاك, وإنه لم توضع شروط للتقدم إلي الترشيح, أو إن المدرسين كانوا الأغلبية التي حددت النتيجة ولكن لحسن الحظ كان المرشحون جميعا من الأساتذة, وكانوا مشهودا لهم جميعا بالتميز أما إذا قيل إن التي حصلت علي أعلي الأصوات لم تحصل علي الأغلبية التي تعني نصف عدد الأصوات زائد صوت واحد فهذا قول لا محل له من الإعراب لأن المترشحين كانوا سبعة, توزعت عليهم الأصوات, والقيمة في نجاحها أنها حصلت علي أعلي الأصوات بفارق ملحوظ بينها وزميلها التالي في المرتبة, وإذا كانت راندا أبوبكر قد حصلت علي أعلي الأصوات, فهذا مؤشر طيب, فسمعتها الأكاديمية والوظيفية والإدارية في صالحها, وستكون العميدة الأولي لكلية الآداب في تاريخها المجيد وإذا وافق رئيس الجامعة, الذي كان يعرف بالتجربة, علي النتيجة التي توصل إليها زملاؤه, فإنه سوف يقوم بخطوة تحسب له وإذا تحمس وزير التعليم العالي للتجربة, فعليه تغيير قانون الجامعة في ضوئها, خصوصا في الاتجاه الذي يؤكد الديمقراطية الجامعية التي تلازمها حرية التفكير والبحث الأكاديمي, في موازاة تحقيق العدالة المالية في رواتب أعضاء هيئة التدريس, فإنه سوف يقوم بإنجاز مضيء, يفخر به, ويدفعنا نحن أعضاء هيئة التدريس إلي الفخر به بالقدر نفسه. المزيد من مقالات جابر عصفور