الديمقراطية مطلب شعبي وجماهيري تتطلع إليه كل الأمم والشعوب, وتدعيه كل الحكومات حتي أكثرها ديكتاتورية. فقد تغني النظام السابق علي مدي ثلاثة عقود بديمقراطية زعم أنها لم ولن يسبق لها مثيل في تاريخ مصر, وأنه وصل بمصر إلي أزهي عصور الديمقراطية إلا أنه لم يؤسس لديمقراطية بل لفوضي شملت كل مناحي الحياة. من منا لم يعان من فوضي الشارع المصري التي لا مثيل لها في العالم, والتي أودت بحياة الملايين في ظل تراجع أمن المواطن لصالح إعلاء أمن النظام ورموزه, والكيل بمكيالين في تطبيق القوانين بل وإعادة صياغتها لتتناسب مع أهواء من يملكون السلطة والمال. يضاف إلي هذا فوضي الأسعار وإطلاقها لتعظيم مكاسب القلة علي حساب الملايين الذين اعتصرهم الغلاء والتضخم فعجزوا عن توفير ما هو ضروري لهم ولأسرهم. وعقب ثورة25 يناير تصاعدت التطلعات والآمال في إنهاء حالة الفوضي والانتقال إلي ديمقراطية حقيقية, بكل أبعادها وممارستها, وتركز الاهتمام وانصب الجدل علي الدستور وحزمة القوانين المنظمة للممارسة السياسية, ورغم أهمية هذا الجسد السياسي, كإطار حاكم للعملية السياسية إلا أنه لا يمكن أن يتحرك إلي الأمام ليمثل نقلة ديمقراطية إلا علي قدمين. القدم الأولي هي سيادة القانون, فلا يمكن تصور ديمقراطيةدون سيادة القانون وشعور كل مواطن بالأمن, وأن هناك حماية لحرياته وحقوقه وممتلكاته من تجاوزات واعتداءات الآخرين, ولا تعارض بين فرض القانون والديمقراطية, ولا ينال من حرية وحقوق الأفراد انصياعهم للقانون ويتعين علي كل مواطن إدراك أن حريته ليست مطلقة وإلا تحول المجتمع إلي غابة وساد منطق القوة والبلطجة, وفي أكثر الدول عراقة في الديمقراطية هناك دولة قوية تفرض القانون علي الكل بحسم. يرتبط بهذا العدالة في تطبيق القانون والتي تقتضي أن يطبق القانون علي الجميع. كما تبرز في هذا السياق أهمية المتابعة والرقابة والمحاسبة, فنزول المسئولين علي اختلاف مستوياتهم, بدءا برؤساء الأحياء وصولا للوزراء والمحافظين إلي الشارع, ومتابعتهم المباشرة, ومبدأ الثواب والعقاب هو السبيل الوحيد لإدراك مشكلات المواطن ومعالجتها والقضاء عليها. فاستمرار النهج القديم والتقليدي للحكومة وأجهزتها التنفيذية وغياب المبادرة, واستمرار إحجام التنفيذيين عن النزول للشارع أدي إلي استمرار الفجوة بين الحكومة والمواطن وغياب الشعور لديه بحدوث تغيير ملموس, واستمرار الظواهر السلبية التي لا حصر لها في الشارع المصري. وهنا تأتي أهمية القدم الثانية للديمقراطية السليمة والمتمثلة في احترام السلطة لآدمية المواطن وكرامته, والسعي بجدية للارتقاء بنوعية حياته, فلا معني للديمقراطية في مجتمع يسوده الفقر والبطالة, ويكدح مواطنوه للحصول علي الخبز, ولا مواطنة مكتملة دون عمل يشعر المواطن من خلاله بالانتماء وأن له دورا يؤديه في هذا الوطن يكسبه احترامه لذاته واحترام الآخرين له. فالبطالة هي أهم وأخطر التحديات التي تواجه مصر انطلاقا من أن العمل يعد متطلبا ضروريا للاندماج الاجتماعي والسياسي للشباب في المجتمع, كما أنه يمنحهم الثقة بالنفس والاستقلالية والاعتماد علي الذات وغيرها من مقومات الشخصية السوية البناءة. فإشباع الحاجات الأساسية للمواطنين من صحة وتعليم وفرصة عمل كريمة ضمانة أساسية للديمقراطية, ولا يمكن اختزال الديمقراطية في التصويت في الانتخابات والبعض يقبل علي بيع صوته من الحاجة, فإذا أردنا ممارسة ديمقراطية سليمة فعلينا توفير العمل والحياة الكريمة لكل المواطنين. إن الطريق إلي الديمقراطية في مصر يبدأ من تنمية اقتصادية واجتماعية ترتقي بالمواطن المصري معيشيا وفكريا, ومع كل الاحترام للجدل الدائر حول حزمة القوانين المنظمة للحياة السياسية في المرحلة الانتقالية التي نمر بها, فإن المعني الحقيقي للديمقراطية أوسع كثيرا من ذلك, ولم تكن المشكلة في مصر في القوانين ولكنها كانت دوما في أسلوب تطبيقها, وانحراف الممارسات عن النصوص. إن الديمقراطية لا يصنعها فرد أو حتي مجموعة, ولا تكفلها القوانين وحدها, وإنما يرسيها المجتمع كله بممارسة واعية وعمل دؤوب وجاد, وهذه الطاقة الخلاقة للمصريين يجب أن توجه للعمل والتنمية لأن هذا هو السبيل لديمقراطية مكتملة وممارسة سليمة. المزيد من مقالات د.نورهان الشيخ