في زمان مضي حكم بالإعدام علي عالم دين ومحام وفيزيائي, وعند تنفيذ الحكم جاءوا بعالم الدين فوضعوا رأسه تحت المقصلة, وسألوه عما يريد أن تكون كلمته الأخيرة فقال:الله, لاأعرف غير الله, هو وحده ينقذني مما أنا فيه, وهوت المقصلة فوق رأسه. ولكنها فجأة توقفت قبل أن تلامس رأس الرجل, صاح الناس يطالبون بالإفراج عنه فقد قال الله كلمته وعطل المقصلة ان تفصل رأس الرجل عن جسده ونجا رجل الدين, وجاءوا بالمحامي يسألونه آخر مايطلب في الحياة فقال لا اعرف الله مثلما يعرفه رجل الدين ولكنني اعرف اكثر عن العدالة فهي وحدها التي تنقذني من مصيري وهوت المقصلة, ولكنها توقفت فجأة قبل ان تصل إلي رأسه فصاح الناس ان العدالة قالت كلمتها ولامفر من اطلاق سراحه, وأخيرا جاءوا بعالم الفيزياء وكرروا عليه السؤال فقال انا لااعرف الله كعالم الدين, ولا اعرف العدالة مثل المحامي, ولكنني اعرف ان هناك عقدة في حبل المقصلة تمنعها من النزول فأصلحوا العقدة وهوت علي رأس الفيزيائي فقطعتها. مغزي الحكاية متروك للقارئ, ولكنها صارت درسا في فضيلة الصمت رغم ان الفيزيائي دفع حياته ثمنا للحقيقة التي سبقه إليها فلاسفة وعلماء آخرون مثل سقراط وبرونو وكذلك الذين خرجوا في25 يناير ولم يؤثروا الصمت علي اعلان الحقيقة, فكانت حياتهم هي الثمن غير ان تقدم البشرية كان الثمن الاعظم, تراث الإنسانية مليء بفضائل الصمت ولكن تاريخها ونهضتها صنعتهما المشاركة والمغامرة والخروج علي الصمت. عنوان هذه المقالة هو عنوان دراسة أصيلة من دراسات عالم الاجتماع المصري الراحل الدكتور سيد عويس, قام الرجل بتحليل ماسطره المصريون من دعوات وشعارات علي سياراتهم تجنبا للشر الذي يخشونه أو دفعا للحسد الذي لايريدونه, وفي عالم السياسة مازلنا نكتفي بالهتاف دون العمل والمشاركة حتي بعد الثورة, ورغم ان الثقافة المصرية تعاني شيئا من الصخب في الحديث, إلا أنها تعاني ندرة في المشاركة وغيابا في المغامرة واقتحام واقع الحياة الصمت السياسي في مصر نوعان: صمت المرغم بالقهر الذي مارسته الحكومات التي تتابعت منذ يوليو52, ومع ثورة25 يناير ذهب القهر وبقي صمت الأحرار دون مبرر, فالحياة السياسية المصرية بعد الثورة مسرح لاقلية صغيرة من النشطاء السياسيين يتقدمهم بضع عشرات يتحاورون كل مساء علي شاشات الفضائيات المصرية والعربية, فيما الأغلبية صامتة تجلس في هدوء وسكينة تستمع إلي ماسبق وان استمعت وسوف تستمع إليه عشرات المرات, يبدو أن ظهور عمرو حمزاوي وعلاء الاسواني وصفوت حجازي وعمار علي حسن وأحمد أبو بركة وعصام العريان وضياء رشوان وصبحي صالح وآخرين علي شاشات التليفزيون وفي كل منتديات الحوار اصبح فريضة من فرائض الثورة لايصح الجدل السياسي إلا بهم, شخصيات نحترمها ولكننا لايمكن ان نختزل حوارنا السياسي في هذا العدد القليل الذي يطاردنا أينما كنا, أ حيانا مرتين أو ثلاث مرات في الامسية الواحدة. حل هؤلاء محل قائمة أخري من الشخصيات التي فرضها الحزب الوطني علينا من قبل يعلموننا من السياسة ما لم نكن نعلم, كنا في الماضي نشكو القهر نبرر به الصمت السلبية, واليوم نتذرع بفضيلة الصمت والترفع عن المشاركة في الهرج السياسي الراهن, رغم اننا نعلم ان التغيير الحقيقي لن يحدث بغير مشازكة قطاعات واسعة من المجتمع, الأحزاب الجديدة تعاني جمع خمسة آلاف توكيل حتي تعلن رسميا عن وجودها, والبعض منها معني في المقام الأول بضم بعض الاسماء التي اصبحت معروفة فقط بكثافة ظهورها في وسائل الاعلان دون أي تاريخ سياسي حقيقي, نحن إذن امام اسماء ولسنا أمام برامج حزبية حقيقية, وهي مشكلة سوف نعانيها في المستقبل, نحن نرتكب الأخطاء ذاتها. كان النظام السياسي السابق يختار قياداته من دوائر المحسوبية والولاء والعلاقات وضيوف برامج التليفزيون, والشيء نفسه نفعله الآن, في الحوار الوطني تصدر الدكتور إسماعيل سراج الدين منصة حكماء الحوار لسبب بسيط, وهو ان مسئول الحوار الوطني هو رئيس مجلس امناء المكتبة التي يعمل الدكتور مديرا لها, وهناك العشرات من الامثلة الراهنة, والنتيجة ان بضع عشرات من الناس يسيطرون علي كل محفل كلامي او خطابي في التليفزيون او الندوات أو منتديات الحوار, فيما الاغلبية صامتة عازفة اكتفت بالمشاهدة أو المتابعة, كنا نأمل ان تدفع الثورة بآلاف من الشخصيات الجديدة إلي ساحات الحوار وشاشات التليفزيون تثري حوارنا وتضمن مشاركة اوسع ولكن الحقيقة هي اننا نخضع اليوم لتوجيهات وآراء قلة قليلة تلح علينا في كل محفل بنفس الكلام والآراء والافكار. والنتيجة ان الثقافة السياسية التي تتكون اليوم لن تكون أبدا ناتجا قوميا ولكنها في افضل الاحوال ناتج اقلية احترفت العمل السياسي قولا وفعلا, وسوف يؤدي ذلك إلي تكوين ثقافة هشة غير قادرة علي مواجهة أي تحد حقيقي, واخشي علي ثقافتنا السياسية ان هي اصبحت من صنع اقلية ان يطاح بها يوما دون أي مقاومة, لانها تفتقر إلي اجماع حقيقي. ويبقي السؤال الأكبر لماذا صمت الاغلبية من المصريين وقد أصبحوا احرارا؟ هل لم نبرأ بعد من قهر الماضي؟ احد الاسباب هي ان ثقافة الشرق التي ننتمي إليها مولعة بمن يقول وليس بما يقول, مكانة الشخص تمنح مايقول هيبة ومكانة دون تحميص أو تدقيق فيما يقوله, هذا الاهتمام المفرط بالقائل وليس بما يقول يدفعنا ان نكتفي من المشاركة باتباع مايقوله النجوم الجدد في السياسة والدين, فاسلمنا لهم امرا ووكلناهم مهامنا وجلسنا منهم مجلس المشاهدين فأصبحنا سياسيين بلا مشاركة مثلما نحن رياضيون بلا ممارسة, وكذلك فإن القضية مرتبطة بالوعي والثقة, الوعي بأهمية المشاركة والثقة في جدواها, الثورة ليست بذاتها كافية لنشر الوعي بأهمية المشاركة السياسية, ولايبدو لي حتي الآن اننا فعلنا شيئا لا من اجل التوعية ولا من اجل الثقة, والمشكلة اننا حتي الآن لانعرف من يقوم بتوعية من وبماذا؟ تركنا الامر للتفاعل الحر فوقعنا في أسر القلة المحترفة تشكل ثقافتنا السياسية كيف شاءت, الحقيقة التي لابد من الاعتراف بها هي ان وسائل الإعلام ليست ابدا بديلا عن المشاركة الفعلية في صياغة مستقبل السياسة في مصر وإنما هي في احسن الاحوال قوة مساندة فعالة لقوي أخري تعمل في ارض الواقع, لدينا شبكة واسعة من مراكز الشباب ومثلها من قصور الثقافة ومراكز النيل تغطي مناطق واسعة من مصر يمكنها اثراء الحوار وتشجيع الناس علي الاهتمام الفعلي بالشأن المصري العام بدلا من المشاركة السلبية بالهتاف امام شاشات التليفزيون. المزيد من مقالات د. حمدي حسن أبوالعينين