لم يمهله والده ليمرح ابان سنوات طفولته, فقد أفرط في الحرص علي تعليمه, ولانه كان موهوبا بالفطرة, فقد ومضت سمات عبقريته مبكرا, وهو ما أثلج قلب والده. وكان مفكرا وكاتبا, وتمكن الفتي جون ستيوارت مل من استيعاب أمهات كتب الادب والفكر والفلسفة. ولم يمنعه التوهج الفكري من التبرم بما شاب حياته من قسوة وقال وكأنه ينعي ذاته: انني لم أعش طفولتي. غير أن هذا الأسي لم يعكر صفو حياته, فقد أصبح مفكرا وفيلسوفا بريطانيا لامعا, وربما كان الأهم, من وجهة نظره, ذلك الحب الرومانسي بالغ الروعة, الذي كانت تدخره الحياة له. فما إن بلغ الخامسة والعشرين من عمره حتي وقع في هوي هاريت تيللور. وكانت امرأة جميلة ومثقفة, وتزوجا وصارت توأم روحه, ورفيقة دربه وفكره. فقد اعتاد جون أن يناقش مع هاريت أفكاره ونظرياته, وكان مزهوا وهو يقول انها شاركته في تأليف كتابه أسس الاقتصاد السياسي الذي نشره عام.1884 أما رائعته الفكرية عن الحرية فقد أصدرها عام.1859وكانت هاريت قد وافتها المنية. وقال كنا نعتزم مراجعة الكتاب معا. لكنها ماتت. ولذلك لن أراجع الكتاب.. وأكد أنها شاركته في تأليفه.. وهو ما أشار اليه الفيلسوف البريطاني برتراند راسل, وهو من أبرز الفلاسفة في القرن العشرين. وأصبح الكتاب درة التاج في فكر الحرية, وأكد فيه جون أهمية الرأي الاخر وضرورته للديمقراطية, وأوضح أن حرية الفكر هي المدخل الحقيقي للتقدم والارتقاء بالوطن, وأشار إلي محنة الفيلسوف اليوناني سقراط. فقد تآمر عليه أصحاب المصالح في أثينا, وحكموا عليه بالاعدام بتجرع السم. وكانت التهمة الباطلة, التي الصقوها به, انه كان يحاور الشباب. وزعموا أنه أفسد عقولهم! وكم كان جون ستيوارت مل حصيفا عندما أوضح أن حرية الفرد ليست مطلقة, ولا ينبغي أن تكون جامحة. وأكد أن علي القانون أن يكبح جماح أي فرد يعتدي علي حرية الآخرين ومصالحهم. ويشير الي أن حرية الرأي هي السبيل للابداع والاشراق الادبي والعلمي, وهي حائط الصد المنيع ضد الاستبداد. فلا مكان لمستبد في بلد يصبو للحرية وينشد العدل. هذه الأفكار الثورانية عن الحرية والعدل, وهي في جوهرها أفكار انسانية, داعبت أحلام الآباء المؤسسين للنهضة الثقافية المصرية الحديثة, والأروع أنهم عقدوا بينها وبين أصالة التراث قرانا ميمونا. وكان رفاعة الطهطاوي نابغة الأزهر الشريف ربما أول من سعي لعقد هذا القران, في أعقاب عودته من بعثته التعليمية بفرنسا عام.1831وفي هذه الفضاءات الفكرية المستنيرة, تأثر مفكر مصري آخر هو أحمد لطفي السيد تأثرا عظيما بفلسفة جون ستيوارت مل عن الحرية, وأطلق عليها مذهب الحريين.. وبشر بها وبالديمقراطية علي صفحات الجريدة في مستهل القرن العشرين. وأثار جدلا خصبا وصاخبا. ومما يدعو للدهشة أن جدل الحرية لا يزال صاخبا, في وقت صارت فيه الحرية بديهية من بديهيات العصر. ويبدو المشهد أحيانا مثيرا للتأمل, ولا أقول مثيرا للاحباط.. وكأننا منذ منتصف القرن التاسع عشر نحرث في البحر. وهذا ما يثير قلق رفاعة ولطفي السيد وطه حسين وغيرهم من كوكبة المثقفين والمفكرين. المزيد من أعمدة محمد عيسي الشرقاوي