خسارة كبيرة تكبدتها البشرية بسبب الجهل بمقاصد الشريعة الأسلامية. لقد قامت الثورة الشعبية في وجه القهر السياسي لتحرير الإنسان.. فمتي تقوم الثورة العلمية في وجه القهر الفكري لتحرير الشريعة؟! سؤال لطالما راودني عندما أتابع تطاول وجرأة واتهام العامة للشريعة الاسلامية وخاصة الحدود في مقابل ردود العلماء علي استحياء في حالة تبدو وكأنهم لا يدافعون عن حق, إنه القهر الفكري الذي يستوجب الثورة العلمية والفكرية للمطالبة بموضوعية البحث ومعيار العلم فضلا عن العقيدة التي لا تصح إذا أنكر صاحبها ما هو معلوم من الدين بالضرورة مثل الحدود.. إن القضية في المقام الأول قضية صراع فكري أو جهل بروح ومقاصد الشريعة الاسلامية, والمتمثلة في الاصلاح الانساني والبشري.. والذي يؤكده الاسلام دوما وخاصة في العقوبات والحدود, حيث يري أن الأصل فيها ستر الذنوب وعدم كشفها في محاولة أو محاولات لتوبة صاحبها ولهذا ذهب كثير من الفقهاء إلي أن المجرم إذا تاب توبة نصوحا قبل أن تمتد إليه يد القضاء سقط عنه الحد وهذه القاعدة الفقهية تؤكد أن الأصل في الحدود الردع الاصلاحي وليس الملاحقة والرغبة في اقامة الحد, ولعل قول النبي صلي الله عليه وسلم يوضح, ويؤكد ذلك حيث قال ما معناه ادرأوا الحدود بالشبهات ما استطعتم فإن وجدتم مخرجا فخلوا سبيله المتهم فإن الامام لأن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة كذلك فإن السنة النبوية تؤكد هذا في منهج لعلك حين جاء رجل إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم وقد اعترف بجريمة الزنا فقال له صلي الله عليه وسلم : لعلك قبلت.. لعلك.. لعلك... في محاولات لإثنائه وستره بعد أن ستره الله وهو المعترف بجريمته من تلقاء نفسه, وكان منطق الجهلاء والمتربصين بالشريعة الآن أن يتهلل النبي صلي الله عليه وسلم ويسارع باقامة الحد, لكن ليست هذه روح الاسلام وليست هذه مقاصد الشريعة ولا أهداف الحدود.. إنها الستر والإصلاح والتربية والردع وليس إقامة الحد في حد ذاته.. إن الواقع العملي للمسلمين عبر قرون طويلة يؤكد هذا النهج, فلم يقم حد الزنا في تاريخ الاسلام كله الا علي المعترف من تلقاء نفسه والمصر علي اعترافه بعد مراجعته مرات ومرات أما ان أقيم حد بشهادة الشهود الأربعة فلم يحدث مطلقا, وهذا يؤكد روح وفلسفة الاسلام ورؤيته للحدود, انها رؤية ثانوية, وليست أساسية. ليست الحدود أكلاشيهات أو أختاما يدمغ بها الحكم, كما في القانون الوضعي الآن, لكن أحكام الحدود وغيرها في الشريعة.. للحاكم وللقاضي فيها روح ومقصد ورؤية.. فمثلا في عام المجاعة في عهد عمر بن الخطاب, سرق البعض الطعام خشية الموت ولحفظ الحياة, وهنا توقف الحد وقيل حينها إن المضطر مأذون بالأخذ ولا يكون سارقا لو كانت اقامة الحدود هدفا أساسيا للشريعة لوجد عمر بن الخطاب في عام المجاعة طريقا للتقوي وأقام مئات الحدود!! لكن ليست هذه هي روح الشريعة ومقصدها كما يري الجهلاء من المسلمين, وكما يتعمد المتربصون من العلمانيين والغربيين وغيرهم. ولعل في هذا المثل العمري ما يشير إلي امكانية الأخذ بملابسات العصر وظروف الواقع وأولويات المرحلة في أرجاء الحدود لا إلغائها الآن وأحسب أن هذا يتفق مع فقه الأولويات, إذا كان الأمر كذلك فماذا بقي للمتربصين والمرجفين من حجة لإثارة هذه القضية؟! عبر قرنين من صدر الاسلام لم يقم حد السرقة إلا ست مرات فقط مما يدل علي نجاح وفعالية وتأثير هذا المنهج منهج الردع ولا غرو, فهو منهج الله, أقولها بكل فخر واعتزاز لا عن توار واستحياء إن نجاح هذا المنهج راجع في المقام الأول إلي أنه مقدس وجاء من عند الله الذي يعلم بواطن الإنسان وظواهره وعواطفه وغرائزه وطبائعه وروحانياته وماديته, إنه منهج غير قابل للتأويل أو التحريف أو ادخال الهوي بالتغيير إنه منهج ألا يعلم من خلق لا يأتيه الباطل مطلقا إلا إذا كان الفهم عليلا..! إن بعض التيارات الاسلامية المتشددة أساءت فهم الشريعة واعتبرت أن الحدود أسبق من العفو والاصلاح, وهي بذلك قد أسهمت في تقوية حملات التشويه والتضليل للشريعة الاسلامية. ان هذا يدفعني إلي التوجه بالدعوة إلي جامعة الأزهر بما لها من مكانة علمية كبري وإلي كل الجامعات المصرية المهتمة بدراسة الشريعة إلي مكتبة الاسكندرية, هذا الصرح العلمي الشامخ ليبدأ الجميع ثورة علمية في هذه المناطق التي ظلت بعيدة عن البحث طيلة عقود من القهر السياسي, مثل الحدود والجهاد والمرأة وحقوق الإنسان والفقه السياسي بل والإسلام السياسي بشكل عام مثل ضوابط الحكم وصلاحيات الحاكم ومؤهلاته والانتخابات التشريعية والحقوق السياسية وحقوق المرأة في الرئاسة والبرلمان والتصويت وغيرها. لعل في هذه الدعوة شرارة البدء لانطلاقة ثورة علمية شرعية لمواجهة الشبهات بكل علم وموضوعية وفكر. وأحسب أن هذا سيكون من أفضل ثمار الثورة الشعبية ثورة25 يناير. [email protected]