ما إن أنهي دراسته الثانوية, حتي صار بالقراءة شغوفا. ودلف إلي مكتبة والده ولم يقتصر ولعه, بحكم حداثة سنه, بالروايات, وانما راقت له الفلسفة. وقرأ ما تيسر للفيلسوفين الالماني هيجل والفرني ديكارت. وشطحت به الطموحات. وظن نفسه فيلسوفا. كان هذا ما حدث نحو عام.1881 ولم يكن الفتي الاسباني ميجل أونا مونو قد تجاوز السابعة عشرة من عمره. وعندما استكمل دراسته الجامعية, لم يصبح فيلسوفا. وانما صار مفكرا قديرا وروائيا. وكان مهموما بأحوال أسبانيا, التي كانت تنزلق من عليائها القديم, وتكاد تهوي في أتون أزمة عارمة. وحاول جاهدا ومثابرا أن يصوب مسارها. ولعل هذا ما دفعه الي كتابة سلسلة مقالات, جمعها في كتاب سماه جوهر أسبانيا, ونشره عام.6191 ويلخص فيه الي ضرورة اعلاء شأن الانسان. وحتي يمكن الاقتراب من تفهم فكرة أونامونو عن الانسان, لابد من الإطلالة علي اهتمامه العميق برواية دون كيشوت للروائي الاسباني ثربانتس. وهي رواية تم نشرها عام.5061 ولم تحقق لمؤلفها ما كان يرجو من شهرة, ولا ما كان يصبو اليه من مال يعينه علي ظروف حياته البائسة. ذلك ان كاتبا اسبانيا كانت سطوته طاغية صب علي الروائي جام سخطه, وبدأ تألقه لكن المثير أن ثربانتس افلت باعجوبة من مقصلة الأهواء الشخصية فقد ترجم كاتب بريطاني روايته عام.2161 وذاع صيت دون كيشوت الفارس الطيب والنبيل, الذي كان يسعي لنشر العدل. ولئن كان قد أخفق في مهمته, الا انه تمكن من بلورة رسالته.. العدل جوهر اعلاء شأن الانسان. ربما كانت هذه الفكرة هي ما اتكأ عليها أونامونو وهو يؤلف كتابه حياة دون كيشوت, الذي نشره عام5091 ويشير فيه الي أن الفارس قد تلقي هزيمة مروعة هذا صحيح, لكنه في الحقيقة حقق انتصارا باهرا بتأكيده ضرورة النضال من أجل العدل ومحو الظلم, مهما كانت العقبات. ولعل كتاب أونامونو هذا يعد أولي المحاولات الجادة في أسبانيا للكشف عن عبقرية ثربانتس. ذلك أن المؤرخين يجمعون علي أن اسبانيا لم تعرف قدر هذا الروائي الا في القرن العشرين. ومن هنا كان احتفالا عظيما عام5002 بمناسبة مرور أربعة قرون علي نشر رواية دون كيشوت. واللافت للاهتمام, أن دون كيشوت فارس العدالة الاجتماعية, مر علي القاهرة علي متن الخيال. فقد جرت ترجمة الرواية ونشرها في مصر, ودول عربية أخري. ويبدو أن الفارس الذي اثخنته الجراح, قد طاب له المقام في القاهرة ورحب به أهلها الطيبون. وظنوا انه مثل أبطال الملاحم الشعبية المصرية والعربية, الذين يسرد الرواة بطولاتهم الخيالية. لكن أحدا لايريد أن يؤكد أو ينفي رواية رددها نفر من أبناء الثورة المصرية ثورة52 يناير.. لقد كان دون كيشوت وابطال الملاحم الشعبية يشعرون بالفرحة والزهو وهم يرقبون الثوار في ميدان التحرير. نعم.. الاسطورة قد تهرع من دروب التاريخ لمحاولة عناق الواقع الذي يفيض بالثورة والأمل. لكن المهم أن تتقوض الأوضاع الجائرة القديمة, وتندثر الاكاذيب المراوغة, وتنسحب الاساطير القديمة حتي يتجلي بهاء الثورة, وتصنع بالحرية والعدل اسطورتها الانسانية المضيئة. المزيد من أعمدة محمد عيسي الشرقاوي