توجهت إلي كتب أحمد بن تيمية لأطالع الأصل الذي يرجح أن بعض الفرق التي تعرف نفسها بأنها إسلامية تأخذ منه, وقبل أن أتحدث عما وجدت وخاصة في مسألة الآخر المسيحي. أروي واقعة حدثت لي في النصف الأول من الثمانينيات فيما كنت أكتب زاوية يومية بصحيفة الخليج الإماراتية وأشرف علي صفحات الرأي بها, إذ عرضت كتابا كتبه فقيه مصري من رجال الأزهر الشريف هو الشيخ سلامة العزامي يناقش فيه آراء ابن تيمية ويرد عليه في كثير من المسائل الأصولية دينا وفقها, وعنوان الكتاب هو البراهين الساطعة في الرد علي ابن تيمية الحراني, وما أن نشرت ملخص آراء العزامي في ابن تيمية حتي قامت الدنيا ولم تقعد لأن الإمارات الشمالية من دولة الإمارات تتمذهب بالمذهب الوهابي الذي يستند أساسا في الأصول والفروع إلي ابن تيمية وهو أبرز المنتمين للمذهب الحنبلي, وجاء إلي مقر الجريدة من يبلغ أصحابها احتجاج علماء المنطقة, وأنهم بصدد رفع دعوي قضائية لأنهم اعتبروا أن مجرد المساس الانتقادي لآراء وفتاوي ابن تيمية يعد خروجا علي الدين الصحيح, وكان أن توسط الوسطاء وأفلت منها بأعجوبة, ولا أدري إن كنت سأفلت هذه المرة أم لا, فاللهم اجعل كلامنا خفيفا عليهم. والرجوع إلي كتب ابن تيمية وبقية أئمة المذهب الحنبلي وامتداداته في البلاد العربية وخارجها, يجعلنا نشك كثيرا في جدوي ما يقال وما يبذل من جهد فيما يسمي تجديد الخطاب الديني وتحديث المفاهيم الفقهية, وأسس الحوار بين أصحاب الديانات الإبراهيمية الثلاث إلي آخر ما عرفناه في العقود الأربعة الأخيرة. ذلك أن الذين يستمدون رؤاهم ومسلكهم من تلك المصادر لا يلتفتون إلي غيرها ولا يجدون فيما تطرحه المذاهب الأخري سواء في صيغها التقليدية التي صاغها مؤسسوها الأئمة مالك وأبوحنيفة والشافعي أو في صيغها التالية التي أضافها الفقهاء المجددون في تلك المذاهب, فما بالك أن يأخذ هؤلاء الحنابلة التيميون من مصادر أخري لمحدثين وإن كانوا ثقاة مجتهدين وأئمة أتقياء لا يرقي إلي إيمانهم واجتهادهم شك, وفي هذا سلسلة من الرجال تجل عن الحصر! وفي مقدمة المجلدات الخمسة للفتاوي الكبري التي أفتي بها ابن تيمية كتب الشيخ حسنين محمد مخلوف المفتي الأسبق للديار المصرية مقدمة ضافية عرف فيها بابن تيمية, وتكلم عن نشأته ومراحل حياته والخطوط العريضة لآرائه وآراء المعاصرين له من العلماء فيه. وحتي لا يذهب الذين يرون في كل تعرض ونقاش لما يطرحه من يطلق عليهم السلفيون, أو الأصوليون اصطيادا غير بريء التوجه, فإنني أقرر أن الأمر كان وأصبح وسيمسي أكبر من عمليات الاصطياد والتراشق, لأنه ثبت بالدليل اليقيني القاطع ومن خلال الوقائع اللحظية وليس اليومية التي يعيشها وطننا, أن السلاح الفتاك الذي يمزقنا ويفتك بوجودنا كله المادي والمعنوي هو السلاح الذي استخدمه عدونا منذ كان لنا عدو: فرق تسد.. ويتجلي هذا التفريق علي كل المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية, والوجدانية وهذا هو أخطر المستويات, لأن وجدان الأمة هو مكنونها الحضاري والثقافي والعقيدي. ومن هنا تأتي أهمية العودة لمصادر كل نزوع فكري أو ديني يؤدي إلي تمزيق هذا الوجدان ويمكن العدو من أن ينفذ ما يريد. دعونا نقرأ ونتوقف عند بعض ما أفتي به ابن تيمية, وهو متصل ببعض ما نحن فيه الآن. ففي باب عقد الذمة وأخذ الجزية بالجزء الرابع من الفتاوي الكبري طبعة دار المعرفة ببيروت دون تاريخ نشر يقول ابن تيمية: والكنائس العتيقة إذا كانت بأرض العنوة فلا يستحقون إبقاءها ويجوز هدمها مع عدم الضرر علينا, وإذا صارت الكنيسة في مكان قد صار فيه مسجد للمسلمين يصلي فيه وهو أرض عنوة فإنه يجب هدم الكنيسة التي به, لما روي أبوداود في سننه عن ابن عباس عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: لا يجتمع قبلتان بأرض وفي أثر آخر: لا يجتمع بيت رحمة وبيت عذاب ولهذا أقرهم المسلمون في أول الفتح علي ما في أيديهم من كنائس العنوة بأرض مصر والشام وغير ذلك, فلما كثر المسلمون وبنيت المساجد في تلك الأرض, أخذ المسلمون تلك الكنائس فأقطعوها وبنوها مساجد وغير ذلك, وتنازع العلماء في كنائس الصلح إذا استهدمت هل لهم إعادتها علي قولين ولو انقرض أهل مصر ولم يبق أحد ممن دخل في العقد المبتدأ فإن انتقض فكالمفتوح عنوة ويمنعون من ألقاب المسلمين كعز الدين ونحوه ومن حمل السلاح والعمل به وتعلم المقاتلة الدفاف والرمي وغيره وركوب الخيل..... ويكره الدعاء بالبقاء لكل أحد لأنه شيء قد فرغ منه ونص عليه الإمام أحمد في رواية أبي أصرم, وقال له رجل جمعنا الله وإياك في مستقر رحمته فقال لا تقل هذا. ثم يقول ابن تيمية:... وليس لهم إظهار شيء من شعار دينهم في دار الإسلام لا وقت الاستسقاء ولا عند لقاء الملوك ويمنعون من المقام في الحجاز وهو مكة والمدينة واليمامة والينبع وفدك وتبوك ونحوها وما دون المنحني... إلي آخره. وسئل ابن تيمية في الخميس ونحوه من البدع الجزء الثاني من الفتاوي, فاستفاض في الحديث عن أعياد المسيحيين وأفرد لهذه الفتوي أو المسألة الصفحات من95 إلي101, وساق آراء أظنها غاية في التشدد والحث علي كراهية الآخر وتجنبه, ولأن المساحة لا تتسع فقد أقتصر علي نقل فقرة واحدة من صفحة100: ونص الإمام أحمد علي أنه لا يجوز شهود أعياد اليهود والنصاري, واحتج بقول الله تعالي: والذين لا يشهدون الزور قال الشعانين وأعيادهم وقال عبدالملك بن حبيب من أصحاب مالك في كلام له قال: فلا يعاونون علي شيء من عيدهم لأن ذلك من تعظيم شركهم وعونهم علي كفرهم!! ذلك غيض من فيض ما أتي به أحمد بن تيمية في فتاواه, ولا أريد أن أتوقف ومعي القارئ حول العديد من المسائل التي أفتي بها الرجل, ومنها تفصيلات حول التعامل مع المردان جمع أمرد وهو الصبي صغير العمر جميل الوجه, لأنني لو توقفت ودعوت إلي التأمل والتفكير في الظروف الفكرية الاجتماعية والسياسية التي أفتي فيها ابن تيمية فتاواه لقيل علي الفور: هاهم يصطادون ما يريدون به إظهار نقائص أئمة المسلمين ومن ثم هاهم يسيئون إلي الإسلام! الأمر إذن ليس أمر خطاب ديني يتم تجديده وتحديثه, وليس أمر اجتماعات تضم الجانبين للوصول إلي تفاهم مشترك, وإنما الأمر أمر أصول فكر ديني كان لها ظروفها ولها أدوات اجتهاد تختلف عن عصرنا ولا يجوز العمل بها فيه, وعندئذ يكون السؤال: هل يمكن لفقهائنا الثقاة المجتهدين المعاصرين أن يناقشوا بوضوح وصراحة هذا الذي ورد في كتب ابن تيمية ومن غزل علي منواله, وأن يقولوا كلمتهم بما لا يحتمل لبسا وعلي قاعدة هم رجال ونحن رجال؟! ولي وقفة أخري مع المصادر, ومع الدور الإسرائيلي الذي أظنه فاعلا للغاية في محنتنا الراهنة. المزيد من مقالات أحمد الجمال