حينما فرغت من قراءة سطور رواية( الجليد) للكاتب الكبير صنع الله إبراهيم, ظل طعمها ورحيقها عالقا طويلا في وجداني.. فالرواية من ذلك النوع الذي يتخلل مسامك وعقلك, ويجعلك تعيد تأمل مجريات أحداثها ووقائعها المرة بعد الأخري التفاصيل الصغيرة والكبيرة.. العبارات المتشابكة.. التعليقات المتناثرة.. اللقطات السريعة التي رصدها الكاتب بقلمه.. الإيماءات والإشارات التي تخلف وراءها ملاحظات.. اقتحام الخصوصيات.. الكلمات القصيرة الموجزة.. تقنية( يلوذ) بها صنع الله إبراهيم في روايته ويجعل القارئ( يغرق) في خضم حياة أبطاله, بل ويشاركهم هذه( الحالة الوجدانية) التي تنتابهم. نعيش هنا في رحاب أجواء خاصة جدا يعرض لها الكاتب, إذ تدور أحداث الرواية في أرجاء الاتحاد السوفيتي عام1973, ذلك العام الحيوي الذي تغيرت فيه أمور كثيرة, ومعه تبدلت الأحوال السياسية ليس فقط علي صعيد الاتحاد السوفيتي بل أيضا علي صعيد العالم أجمع.. اختار صنع الله( بيت الطلبة) مركزا لأحداث روايته.. ومن هذا البيت نتعرف علي شخصيات وأبطال الرواية, ونعيش معهم مشكلاتهم ونشاركهم أحلامهم ونقترب من عوالمهم.. البيت هنا إذن بمثابة( بؤرة) رئيسية للأحداث التي تتشابك وتتباعد خيوطها, صانعة معها تلك الخصوصية التي يحرص دائما الكاتب علي رصدها.. وفي أرجاء هذا البيت بحجراته وغرفه الصغيرة تتفتح العلاقات وتنصهر المشاعر تاركة خلفها( حالة) خاصة جدا من الأجواء المفعمة بالإحساسات الوجدانية العميقة.. يلتقي القارئ مع جنسيات وشعوب متباينة جاءت الي الاتحاد السوفيتي لأسباب مختلفة, ومعها يقترب من الأجواء الحياتية التي سادت هناك في تلك السنوات خلال عهد الرئيس بريجنيف.. الكآبة تراها في العيون.. وتكاد تلمح المعاناة علي الوجوه.. وتشاهد الطوابير الطويلة في الشوارع.. ذلك المشهد التقليدي الذي طالما اشتهر به الاتحاد السوفيتي.. السعي الحثيث وراء لقمة العيش.. الجليد يكسو المكان تماما مثلما يكسو القلوب.. واقع صعب ومرير ومعاناة يومية يتعرض لها الجميع.. واذا كنا نعيش مع الراوي وتفاصيل علاقاته ومشاعره وحواراته, فإننا نعيش في الوقت نفسه مع( المسكوت عنه) من خبايا الحياة في الاتحاد السوفيتي وتفاصيل جذور انهياره, كما ورد في كلمات الغلاف الخلفي للرواية.. هناك أيضا( الجانب الجنسي) الذي تبرزه سطور العمل.. وهو يأتي هنا في خضم( المسكوت عنه), إذ يتعمد الكاتب إبرازه والتعرض لأسراره, ربما علي سبيل الكشف عن خبايا المجتمع السوفيتي علي جميع الأصعدة والمنحنيات: السياسية والمجتمعية والسلوكية.. هذه رواية( تفاصيل) وليست رواية( أحداث).. وأحسب أن هذا التصنيف لا ينتقص من قدرها ومكانتها الروائية.. فالتفاصيل هنا تصنع معها( نكهة) خاصة, وتقدم عبر كلماتها وجملها العديدة( حبكة) روائية مميزة, فهي ليست مجرد تفاصيل صغيرة يزج بها الكاتب هكذا دون قصد.. بل إنها تترك وراءها وهو الأهم في الحقيقة رؤية عميقة متأنية للمشهد الذي أراد الكاتب تصويره بقلمه الواعي والحساس. مازلت أذكر كلمات صنع الله إبراهيم حينما كنت أجري معه يوما حوارا وقال لي: أحرص علي رصد التفاصيل الصغيرة في أعمالي, فهي التي( تصنع) الرواية.. الأحداث يمكن سردها في سطر أو سطرين.. يكمل صاحب( تلك الرائحة) و(نجمة أغسطس) و(ذات) و(شرف) و(وردة) و(أمريكانلي) و(العمامة والقبعة) و(القانون الفرنسي) مشواره الروائي الحافل بتأن ودأب وثقة.. فهو من أولئك الروائيين الذين يعملون في صمت, دون إثارة الأضواء خلفهم.. دون جلبة أو ضجيج, وهو أمر نادر بالنسبة للكتاب والروائيين الذين يكترثون كثيرا بالبقاء في قلب الأضواء علي وجه الخصوص.. تحية الي كاتب( الجليد) الذي يذوب هنا مع دفء عباراته ودقة ملاحظاته.. الرواية صادرة عن دار الثقافة الجديدة.