بانقضاء أسبوع كامل لم تلح في نهايته بوادر انفراج الأزمة التي شهدتها محافظة قنا واستمرار قطع الطرق وتعطل حركة القطارات في صعيد مصر, سألت أكثر من زميل, بل وكل من صادفته في طريقي من أبناء جنوب مصر عن سر حالة التعنت التي باتت تهدد هيبة الدولة واستقرارها وغياب دور المثقفين من ابناء الجنوب في حل الأزمة, والمثير ان كل الاجابات التي حصلت عليها عبر رحلتي الاستقصائية المحدودة لم تتعد استنكار حالة العنف وتصعيد الاحتجاجات ورفض إثارة النعرات الطائفية, مع تأكيد ان جذور الازمة وحلها مرتبطان بالموروث الثقافي وبالعقلية الجمعية التي تحكمها علاقات البطون والقبائل في جنوبالوادي.. من جانب آخر فقد جاءت مطالبات ابناء سيناء والنوبة الأسبوع الماضي بغض النظر عن نوعيتها وأسبابها لتؤكد مرة أخري ان النسيج الثقافي المجتمعي المصري برغم تجانسه الا انه يحمل في ثناياه ثقافات متنوعة, او علي الاقل عدد من الموتيفات الثقافية المستمدة من علاقة المصري, ابن الوادي والنيل او الصحراء, مع البيئة, ومن محاولاته لإيجاد أطر يطوعها وفقا لمتطلبات ورؤية الجماعة, الامر الذي ادي لترسيخ وسيادة نظم وتقاليد وأعراف هذه المجتمعات, وبالتالي الإطار الثقافي الذي يحكم فهم ووعي أبنائها ويحدد أنماطهم السلوكية والنظم التي تحكم تعاملاتهم داخليا او خارجيا مع الغرباء. واليوم, إذ نحاول ان نلتف جميعا حول هدف واحد للنهوض بمصر وتجاوز مشاكل وتحديات اللحظة الراهنة, أظن أن التعامل مع المشكلات, القديم منها وماقد يستجد, يتطلب قراءة متأنية وحقيقية للواقع والعلاقات الاجتماعية وللابعاد الثقافية ومنظومة القيم والسلوكيات التي تحكم حياة المجتمعات خارج العاصمة وفي ابعد الاماكن طبقا لخطوط الطول والعرض الجغرافية وإزالة التراب عنها بالدراسات والأبحاث التي قدمت ارتحالات للعمق المصري ولم يستفد منها او محاولة تطبيق نتائجها. علي امتداد الصحراء من الاسكندرية الي السلوم في الواحات وشبه جزيرة سيناء استقرت جماعات البدو وشكلت ثقافتها الخاصة التي تختلف الي حد كبير عن ثقافة ابناء الوادي التي ظلت لسنوات طويلة في عزلة وشبه انفصال عما يحدث في الوادي, الامر الذي ادي لترسيخ وسيادة نظمها وتقاليدها وأعرافها, مع ذلك فمن الملاحظ ان السنوات الاخيرة قد شهدت ظهور عدد من الدراسات المعنية بثقافة هذه المجتمعات نتيجة للعديد من المتغيرات السياسية والاقتصادية, التي كان من بينها محاولة التغلب علي الآثار الناجمة عن احتلال اسرائيل لسيناء عقب حرب67 والتغلب علي مشكلة الفراغ السكاني في شبه الجزيرة واستثمار موارد المنطقة او ظهور مشاريع اقتصادية وزيادة حركة السياحة في سيناء والواحات. في هذا السياق ظهرت مجموعة من الدراسات التي ارتكزت علي خلفية الفنون الشعبية والفولكلور وعلم الاجتماع, وحاولت دراسة ثقافة المجتمعات البدوية المصرية والسمات التي تميزها عن ثقافة المجتمع المصري وتأثيرها علي البناء المعرفي لأبناء تلك المجتمعات الذي يشكل بدوره افكارهم وأنماط سلوكياتهم وتقاليدهم, وبالتالي هويتهم التي يتعرفون من خلالها علي انفسهم ويتعرف بها الآخرون عليهم, وظهرت بعض الدراسات التي ركزت علي المتغيرات التي لحقت بتلك الجماعات نتيجة الاتصال بثقافات اخري, وأثر ذلك علي هوية وانتماء هذه المجتمعات مع البيئة المصرية, ومن بينها دراسة احمد عبدالموجود الشناوي عن جنوبسيناء والعريش التي قدمها تحت عنوان الهوية الثقافية للمجتمع البدوي ودراسة ايمان عبدالمنعم العربان ودورهم في المجتمع المصري في النصف الاول من القرن التاسع عشر وغيرهما من الدراسات التي كشفت عن ان المشاريع الاقتصادية والاتصال بالأجانب سواء من أبناء الوادي أو السائحين ووصول وسائل الاعلام لعدد من المناطق النائية قد بدأ يلعب دورا في تغيير كثير من القيم التقليدية للمجتمعات البدوية في مصر واكتساب أفرادها سمات ثقافية جديدة اختلطت بثقافتها التقليدية أو إزاحة القديم منها لصالح الجديد الوافد, وفي نفس السياق تأتي دراسة الباحث جوزيف فسكومي التي صدرت أخيرا في سلسلة بحوث القاهرة في العلوم الاجتماعية, تحت عنوان أبعد مكان.. الحدود الاجتماعية داخل مجتمع صحراوي في مصر, فقد أوضحت الدراسة التي تناول فيها الباحث العلاقات الاجتماعية في ست قري في منطقة ابو منقار بمحافظة الوادي الجديد, ان سكان ابو منقار الذين اعيد توطينهم بمعرفة الحكومة المصرية في الاراضي المستصلحة قد اقاموا علاقات اقتصادية واجتماعية تشابكت فيها تجاربهم الحياتية الماضية وتجاربهم في الحاضر التي فرضتها عليهم طبيعة المكان والعزلة الجغرافية والوجود علي هامش الحياة الاقتصادية والاجتماعية في مصر. وأشار الباحث الي استمرارية الدور الذي يلعبه البناءالثقافي في تشكيل الواقع اليومي بالمجتمع الجديد في القري التي اعيد فيها توطين سكان الوادي القديم, وبالتالي ظهور الصراع بين منظومة القيم الموروثة المستقرة التي تشكل عملية الإدراك وتحدد الخيارات وبين محاولة فرض نظم وقواعد تفرضها الدولة للتحديث, الأمر الذي يحد من قدرة الدولة علي بسط سيطرتها الكاملة علي تلك المناطق او تنفيذ المخططات النظرية. وخلص الباحث الي ضرورة الاهتمام بدراسة وفهم طبيعة الحدود المكانية والاجتماعية والموروث الثقافي للجماعات شبه المعزولة ودراسة ماضيها حتي نستطيع التخطيط لها أو علي اقل تقدير نتوقع مستقبلها. والمؤكد أننا الآن بحاجة للمزيد من البحوث الميدانية والدراسات الجامعية بأقلام مصرية جادة ساعية لاكتشاف أبعاد ثقافات الصحراء والمناطق النائية المهمشة, وحل شفرتها وتتبع المتغيرات التي طرأت عليها؟ فهل من مزيد من الدراسات ومن الارتحالات للعمق المصري لنرسم خريطة اوضح لماضينا ولحاضرنا, ولنكتشف معطياتنا الثقافية والمجتمعية لفهم الشفرات الثقافية والاجتماعية لجماعات, وان باعدها المكان فهي جزء لايتجزأ من قلب وعقل مصر وشريك اساسي في حل أزماتنا ومشاكلنا الآنية وما قد يستجد؟!. [email protected]