تثير الاحتجاجات الشعبية التي أثارها تعيين الحكومة للواءعماد مخائيل.. محافظا لقنا, وكذلك احتجاجات بعض عناصر النخبة المصرية علي ترشيح الدكتور مصطفي الفقي لمنصب أمين عام جامعة الدول العربية, قضية شديدة الأهمية, وهي كيفية تولي المناصب العامة أو القيادية في النظام الديمقراطي. والواقع أني أتوقع أن تثار قضايا كثيرة تجسد أو تعبر عن تأثير وتداعيات التحول الديمقراطي علي الكثير من نواحي حياتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية, وكذلك علي الكثير من الإجراءات والتصرفات التي تعودنا عليها شعبا وحكومة طوال العقود الستة الماضية! وعلي سبيل المثال, فإن الأمر سوف يتكرر بشأن كيفية وضع السياسات العامة, وكيفية نظيم الصحافة.. وكيفية تنظيم الإعلام.. إلخ. فإذا عدنا إلي القضية التي نحن بصددها اليوم( أي تولي المناصب العامة) فإنني أعتقد أن جوهر ما حدث من رد فعل شعبي لتعيين محافظ قنا, لا يتعلق بمجرد ما يشير إليه من رفض إسلامي لتعيين محافظ مسيحي!, وإنما جوهره في الحقيقة هو أن أبناء محافظة معينة قد أبدوا رأيهم( بصرف النظر عن صوابه أو خطئه) في تعيين محافظ لهم! ويعزز ذلك أن نفس السلوك قد تكرر في محافظات أخري وإن لم يأخذ نفس الاهتمام الإعلامي. والأمر نفسه ينطبق علي الاعتراضات ذ بل والمظاهرة التي قام بها عدد من أبناء النخبة المصرية رفضا لترشيح وزارة الخارجية للدكتور مصطفي الفقي لتولي أمانة جامعة الدول العربية. ذلك هو التطور الجديد أو الظاهرة الجديدة التي تربط قطعا بالتحول نحو النظام الديمقراطي في مصر, وتلك هي القضية التي ينبغي الالتفات إليها, وبحثها, وحسمها. ففي أي نظام ديموقراطي حقيقي لا يمكن أن يتم تعيين محافظ في موقعه بقرار فوقي من السلطة التنفيذية, كما كان يحدث في مصر, كما لا يمكن أن يتم ترشيح شخص لمنصب سياسي خارجي مهم بدون مصادقة البرلمان أو السلطة التشريعية, كما كان يحدث أيضا! ولا شك أن تغيير هذه القواعد لن يكون سهلا أو سريعا, فهو سوف يرتبط أولا بالدستور الدائم الذي سوف يؤسس للدولة الديمقراطية المستقرة في مصر, ويرتبط ثانيا بالقوانين والتشريعات التي سوف تعيد تنظيم مختلف نواحي حياتنا, ثم ثالثا بالتغييرات الهيكلية والتنظيمية المواكبة لذلك التحول. في هذا السياق أسنتطيع القول إن ما حدث في قنا من اعتراض علي ترشيح محافظها الجديد كان نتاجا طبيعيا للتناقض بين إقدام أهالي قنا للتعبير عن رأيهم في تعيين المحافظ( وهو تصرف كان يستحيل تقريبا أن يحدث في ظل النظام القديم!) وبين القرار الفوقي الذي اتخذته الحكومة في تعيين المحافظ( تعبيرا عن أسلوب الفرض الفوقي لمحافظ من الحكومة كما جرت العادة). في هذا المناخ كان من السهل جدا أن تعلو أصوات محاولة قيادة أبناء الشعب الطيب في قنا ورافضة لتعيين محافظ مسيحي, رافعة حجة وجيهة ومقنعة, وهي رفض أن تكون قنا هي كوتة مكررة لمحافظ مسيحي! ولنتصور علي العكس أن هناك نظاما ديمقراطيا يسهم بمقتضاه أهالي قنا( أو أهالي أي محافظة) في اختيار أو انتخاب محافظهم, وأن هناك آلية للمفاضلة بين عدة مرشحين مسيحيين أو مسلمين, فمن المؤكد أن الأهالي سوف يختارون ذلك الذي يتوسمون فيه أن يحقق مصالحهم بشكل أفضل, حتي ولو انحاز بعض المسيحيين لمسيحي, وبعض المسلمين لمسلم! وهي ظواهر من المؤكد أنها سوف تتضاءل مع انتشار التعليم, الثقافة, والتربية المدنية الديمقراطية.. والخ. وهي بالمناسبة الأمور التي تضاءلت وضعفت في العهد البائد, لتتيح الفرصة للنمو الكامن لقيادات دينية رجعية ومتعصبة رأت بدورها في الانفتاح الديمقراطي فرصة للظهور وللتعبير عن آرائها. والأمر نفسه ينطبق علي الاحتجاجات علي ترشيح الحكومة المصرية للدكتور مصطفي الفقي لتولي منصب الأمين العام للجامعة العربية. ومرة أخري, فإن من حق أي مواطن مصري( فضلا عن أبناء النخبة المثقفة والمتعلمة) أن يعترض علي هذا الترشيح, كما يحدث في أي مجتمع ديمقراطي! غير أن المسألة أعقد من ذلك وتتعلق بكيفية اختيار من يتولون المناصب الدولية( التمثيلية وغيرها) في النظام الديمقراطي, حيث يستلزم الأمر موافقة ممثلي الشعب أو مصادقتهم علي ترشيح الدولة أو الحكومة له. في الولاياتالمتحدةالأمريكية مثلا, تلزم موافقة مجلس الشيوخ علي ترشيح الرئيس الأمريكي لمن يتولون مناصب تمثيلية أو دولية مثل السفراء وغيرهم. ولنتذكر هنا ما جري في مجلس الشيوخ الأمريكي في شهر أغسطس من العام الماضي من اعتراض علي ترشيح فرانسيس ريتشاردوني كسفير للولايات المتحدة في تركيا, استنادا إلي أن ممارسته لعمله في أثناء خدمته كسفير في مصر كانت تتعارض مع القيم الأمريكية وفقا لما ذكره في ذلك الحين السيناتور سام برونباك من ولاية كانساس. وقال برونباك في رسالة وجهها إلي وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون إن سجل ريتشاردوني أسهم في زعزعة ثقة الجماعات المعارضة وجماعات حقوق الانسان حول العالم في التزام الحكومة الأمريكية برسالة الديمقراطية, وأشار برونباك إلي عبارة قال فيها ريتشاردوني مجاملا للحكومة المصرية! في مصر توجد حرية تعبير كتلك التي توجد في الولاياتالمتحدة. والملفت أن برونباك قال في ذلك الحين بالنص: زإن الأوضاع في مصر تؤكد أنها تتجه نحو لحظة مهمة في تاريخها!! قياسا علي ذلك, فإن من المتصور أن توجد آلية ديمقراطية يتم بمقتضاها موافقة أو مصادقة الشعب من خلال أجهزته التمثيلية أي مجلس الشعب أو مجلس الشوري علي ترشيح الحكومة المصرية لمن يتولي منصب أمين عام للجامعة العربية. ولكن ومع انتفاء وجود تلك الآلية الديمقراطية الآن فإن المعترضين علي تعيين مصطفي الفقي مارسوا حقهم المشروع في التعبير عن هذا الرفض استنادا إلي حجج وجيهة, لا شك أن أهمها هو قبول د. الفقي لمقعده في مجلس الشعب بناء علي عملية تزوير لا شك فيها, فضلا عما أعرب عنه في بعض الأحيان من ولاء أو تعاطف مع النظام القديم حتي في أيام الثورة الأولي. وقد تم هذا الرفض من خلال مقالات صحفية وكذلك من خلال وقفة احتجاجية أمام مبني الجامعة العربية. ولا شك أن هناك تناقضا لا يمكن إنكاره- في حالة د. الفقي بين كفاءته المهنية وجدارته السياسية! وبالنسبة لي أعتقد بناء علي معرفة بمصطفي الفقي تعود إلي ما يزيد عن أربعين عاما عندما كان يسبقني بثلاث سنوات في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة أنه مؤهل تماما لهذا المنصب بل ربما كان هو أفضل من يستحقه من حيث المواصفات والخبرات المهنية. ولعل ذلك ما يفسر حماس وزير الخارجية المصري المرموق د. نبيل العربي لترشيح الفقي لهذا المنصب بلا أي تردد, بالرغم من إدراكه بلا شك لنواحي القصور السياسية التي ينبه إليها المعترضون علي الترشيح. وكما ذكر د. نبيل العربي بالنص: فإن تاريخ الفقي الدبلوماسي يجعله المرشح الأنسب لشغل هذا المنصب في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ الجامعة العربية, مشيرا إلي أنه بالإضافة إلي اهتمامه العلمي منذ فترة طويلة بالفكر القومي وقضايا العمل العربي المشترك فقد سبق له العمل مساعدا لوزير الخارجية للشؤون العربية ومندوبا دائما لمصر لدي الجامعة العربية فضلا عن شغله منصب نائب رئيس البرلمان العربي. ولا يخالجني شك في أن الدكتور العربي يهمه أن يكون أمين عام جامعة الدول العربية مصريا, وأنه يعتقد أن الفقي ليس فقط الأكثر كفاءة للقيام بهذا الدور وإنما هو أيضا الأكثر إقناعا للدول أعضاء الجامعة العربية, حتي وإن كانت مصداقيته السياسية بداخل مصر قد شابها ما شابها..., ولكن.. من كان منا بلا خطيئة فليقذف مصطفي الفقي بحجر. تنويه: تعليقا علي مقالي يوم الأربعاء الماضي(4/20) بعنوان العودة إلي الأهرام كتب السيد رئيس مجلس إدارة الأهرام السابق د. عبد المنعم سعيد عموده اليومي( من القاهرة) بعنوان توضيح لابد منه يوم4/23 تضمن عددا من الملاحظات غير اللائقة والمرفوضة في أسلوبها وغير الصحيحة في مضمونها. غير أنني احتراما لتقاليد الأهرام وتجنيبا لقارئه من الانشغال بأمور لا تهمه, سوف أعزف عن الرد عليها, موقنا أن من تهمهم تلك الأمور من الزملاء الصحفيين والنخبة المصرية يعرفون الحقائق جيدا, ولا يحتاجون مني لرد أو إيضاح. المزيد من مقالات د:أسامة الغزالى حرب