بهاء جاهين: في الظروف المعتادة أغنية الفرد هي القاعدة, لكن الأغنية الجماعية تولد في الاحوال التي يكون فيها الوجدان الجمعي حيا وسائدا, مثل الثورات, الشعبية منها علي وجه الخصوص. ونحن كان لدينا ثورة شعبية عظيمة في الماضي انتصرت وولدت سيد درويش وبديع خيري وأغنياتهما الجماعية علي لسان طوائف الشعب المختلفة مثل الشيالين والعربجية والسياس والسقايين والصنايعية, وهي أغان مازالت تعيش بيينا وفي داخلنا ومازلنا نغنيها معا فتخلق فينا حالة الوجدان الجماعي الذي كان سبب ثورة19 ونتيجتها في نفس الوقت, نغنيها سويا فتتولد فينا روح الحماس والتوحد وشعار الكل في واحد المصري القديم الذي أحياه توفيق الحكيم في عودة الروح روايته الأولي والكبري التي كتبها في اجواء ثورة.1919 كان هذا التحول العظيم يحدث داخلنا ونحن نغني شد الحزام علي وسطك غيره مايفيدك والحلوة دي قامت تعجن في البدرية حتي في قمة عصر الفردية حين كان الفرد جزيرة منعزلة محاطة ببحر من اليأس والغربة واللامبالاة, فما بالكم الآن وقد استعدنا وجداننا الجماعي؟ إن أغاني سيد درويش كانت توقظ ولاتزال في ضمائرنا روح الوطنية والوحدة بين طوائف الأمة, مثلا حين يقول شاعره وشاعرنا بديع خيري في أغنيته علي لسان العمال المصريين العائدين من الخارج( ما أشبه الليلة بالبارحة). هات البزبورت وياللا بنا يااسماعين لا الوجت يفوت غربة إيه دي مصر أولا بنا بعدها مابيحلا لنا القوت عهد الله وعهد الأنبيا مانفوتهاش ولا بالنبوت هي السمكة تفوت المية دا احنا من غير مصر نموت وفي أعنية بنات مصر يقلن لشبابها: باردون ياافندي بالذمة إيه بس عيب المصرية؟ الدنيا ضاقت بيك لما ماتاخدش غير افرنجية؟ افهم واعقل ياأهبل ماتخلي زيتنا في دقيقنا ياأهبل ليه غيرنا يفرقنا لافرنجية عينها لقرشك المصرية تبيض وشك ياسيدي إنت وقد صنع سيد درويش وبديع خيري أغاني لطوائف الشعب جميعا حتي الحشاشين والمنزولجية, وتنتهي المنزولجية بأبيات طريفة: ويسكي ميت منزول ميت كوكايين ميت وحشيش ميت اختار لك موتة وطنية أحسن م الموتة لافرنجية لقد كانت روح ثورة19 تهيمن علي فنهما حين كانا يبدعان هذه الأغاني في لوحات استعراضية علي مسرح فرقة الريحاني, وقد يكون الموضوع مختلفا عن موضوع الثورة لكن الثورة كانت تصبغه بصبغتها وكان الناس يخرجون من مسرح الريحاني في شكل مظاهرات تغني هذه الأعمال التي كانت سهلة الحفظ بشكل عجيب وكانت في اليوم التالي تنتشر في القاهرة كلها. وتنتهي أغنية السياس بهذه الأبيات: إن كنت صحيح بدك تخدم مصر أم الدنيا بتتقدم لا تقول نصراني ولا مسلم ولا يهودي ياشيخ اتعلم دا اللي أوطانهم تجمعهم عمر الأديان ما تفرقهم وهذا المعني يتكرر في أعمال أخري مثل نشيد قوم يامصري وهذا وغيره يزخر به الكتاب القيم الذي صدر عن دار ميريت ويضم الأعمال الكاملة لبديع خيري جمع وتحقيق ودراسة د.نبيل بهجت. إن اللحظة التي نحياها الآن مرشحة لأن تكون مهد الميلاد الثاني للأغنية الجماعية وللموسيقي التعبيرية غير الزخرفية والمعاني التي تمثل المشترك بيننا جميعا والروح الشعبية الراقية, التي نجدها في أعمال سيد درويش وبديع خيري شعبية راقية جادة حتي ان بدت أحيانا هازلة تعكس روحا متحمسة إنسانية تختلف تماما عن الشعبية التي عرفناها في السنوات السابقة التي كانت تعاني من سوقية متأصلة امتدت لتشمل حتي أغاني الصفوة وتصريحات الوزراء. إننا فقط نحتاج إلي كلمات تعبر عن الناس وإلي الالحان التي يمكن للانسان العادي أن يغنيها دون الحاجة لتدريب صوتي خاص, وفي اعتقادي أن لدينا حشدا من المواهب لا يقل عن حشد ميدان التحرير في أوجه.