عملاق الفكر العربي عباس محمود العقاد, الذي تمر ذكري وفاته السابعة والأربعين هذه الأيام صاحب اهتمامات إيجابية واضحة بالثورات, سواء العالمية أو المصرية. اهتمامات تختلف عن اهتمامات أفراد جيله من الرواد, فقد كتب عن أغلب هذه الثورات, وتحدث عنها حديث من طب لما يحب, ومن هذه الثورات العالمية: الثورة الفرنسية, والثورة الأمريكية, والثورة الروسية. وكان حديثه يدور حول الذين قاموا بها, والذين مهدوا لها, كما تحدث عن الثورات المصرية المتتالية, وكانت اهتماماته بها: إما كمدافع عنها وعن زعيمها كما حدث في ثورة عرابي عام 1882, أو القاسم والشريك كما حدث في ثورة مارس عام 1919, أو المطالب بها والمؤيد لها كما حدث في ثورة يوليو عام 1952, ولعل اهتمام العقاد بالثورات كان ينسق مع ملامح شخصيته تلك التي لم تعرف سكونا أو همودا حتي إنه كان لا ينتهي من معركة إلا ليبدأ معركة جديدة, إذ كيف يهدأ, أو يسكن إنسان شأنه كان شأن قادة الفكر الذين كانت الرسالة عندهم ليست في أن يزيدوا المعرفة من جنسها, بل كانت الرسالة عندهم في أن يغيروا من جنس المعرفة معرفة وينقلوها إلي عمل جديد مختلف, وهي سمات وملامح ربما تقترب من ملامح وسمات الثوار الذين يثورون لتغيير الأوضاع بشكل يختلف عما كانت عليه من قبل. لقد بدأ العقاد الاهتمام بالثورات المصرية حين كتب عن الثورة العرابية وأين؟ في صحيفتي اللواء والدستور التابعتين للحزب الوطني الذي كان يهاجم هذه الثورة. ومتي؟ في بدايات القرن العشرين حين كان العقاد شابا دون العشرين من عمره. وربما يفسر موقف العقاد غير المعجب من الممارسات السياسية للزعيم مصطفي كامل, انتقاد الأخير للثورة وزعيمها عرابي. كموقف انسحب علي كتاب الحزب الوطني وقتئذ ومنهم عبد الرحمن الرافعي في تأريخه لهذه الثورة ووصفه عرابي بالجهل والتهور.. وهنا دافع العقاد عن هذه الثورة, حتي وضع دفاعه عن عرابي وثورته في مكانه الصحيح من الحركة الوطنية لمصر.. ولنقرأ مثلا رأيه عن عرابي قوله: لا نجد إلا قليلا من الكتاب الذين أنصفوا عرابي, بل إن أكثرهم استمدوا علمهم من أكذوية تقول إن البطل أحمد عرابي كان خائنا لوطنه, مأجورا للانجليز علي أن يقوم بالثورة ويمهد لهم الاحتلال, وأنه وحده هو المسئول عن إحتلال مصر!! ثم يتساءل: أين هي الأموال التي استؤجر بها عرابي وباع بها وطنه للإنجليز كما افتري عليه هؤلاء المنافقون؟ لقد كانت مصر كلها في قبضة يد ذلك الرجل فما اقتني شيئا, ولا جمع مالا, ولا ترك لأبنائه من بعده كثيرا ولا قليلا.. وأن رجلا كهذا لأشرف الف مرة من أولئك اللصوص الذين لا تنبسط أيديهم الا اذا جمعوا الملايين من السحت والسرقة والاغتصاب. أما ثورة مارس عام9191 فقد كان فيها العقاد شابا دون الثلاثين, وكان له فيها دور بارز, وأثناء اشتعالها حقق شهرة لافتة, حتي إن مؤرخيه ونقاده اعتبروا أن هذه الثورة قد قدمت العقاد ككاتب سياسي من الطراز الأول, خاصة بعد أن توطدت علاقته بزعيمها سعد زغلول, الذي طلب منه بطريقة غير مباشرة, كتابة مقالات مؤيدة للثورة, فكتب إلي جانب مراجعة منشورات الثورة التي كانت تكتبها جماعة اليد السوداء, وتعديل صياغتها حتي تكون أكثر تأثيرا علي الجماهير, لإيمان سعد زغلول بوطنية العقاد إلي جانب موهبته التي صنعت منه قلما جبارا, وكاتبا أوحد للأمة, كما كان بعينه سعد زغلول, ومن ناحية أخري فقد ازداد العقاد إيمانا ويقينا بهذه الثورة والدفاع عنها بعد نفي زعمائها. وأما اهتمام العقاد بثورة يوليو 1952, فقد كان اهتمام المطالب بها المؤيد لها, حيث يذكر فساد الملك بعد كشف فضائح الأسلحة الفاسدة في حرب فلسطين حيث يقول: لم يبق أحد يضمر الولاء للملك الذي وصلت به الضعة أن يتجر بأرواح جنده وهم في ساحة القتال إلي أن يقول: وهكذا الأمل انقطع شيئا فشيئا في الاصلاح, وأصبح السخط في القلوب غالبا علي كل حيرة في العقول, حتي اذا كانت الأسابيع الأخيرة من عهد فاروق المشئوم جري ذكر الكوارث التي تتعاقب في مجلس ضم اكثر من عشرين مصريا.. فقال قائل: وما العمل؟, فقلت: إنها الثورة لا محيص لنا منها ولا معدل, وليكن ما يكون, والحمد لله قامت الثورة ونجحت. والسؤال المطروح الآن: ماذا عن موقف العقاد لو كان حيا بيننا من ثورة الشباب في52 يناير؟ أتصور وقد أكون مخطئا أن العقاد صاحب الاهتمامات بالثورات, والمؤيد لها, وفارس المعارك السياسية والفكرية, لو كان موجودا وشاهدا لما جري في ميدان التحرير من شباب مصر لأتاه علي الفور إحساس ابن العشرين حين دافع عن ثورة عرابي, أو ابن الثلاثين حين اشترك في ثور 1919, أو الكاتب السياسي الناضج الذي طالب بثورة... 1952 ولكان بارك عمل هؤلاء الشباب وأيدهم, وساند ثورتهم تلك التي كانت الخلاص مما كانت مصر تعانيه من فساد. المزيد من مقالات سامح كريم