لا يضارع حالة الفرح والنشوة المفعمة بالأمل بنجاح ثورتنا في تغيير الكثير من أركان نظام الفساد الاستبدادي للرئيس السابق حسني مبارك, إلا حالة القلق علي الثورة من الأخطار المحيطة بها حاليا, ومن العقبات المترصدة لها علي الطريق نحو المستقبل, والأخطار الحالية معروفة للجميع, أما ما لم يظهر بعد من عقبات, فهناك منه ما هو متوقع, وهناك منه ما لا يري الآن, لكننا نرجيء الحديث مؤقتا عن هذه وتلك, لنثبت لأنفسنا أن كل أسباب القلق والخطر ومظاهره هي جزء من طبيعة الثورات, ومن ثم فلا داعي لأن نتركها تغرقنا في بحار من التشاؤم واليأس. إن التاريخ لم يعرف قط ثورة بحجم وعظمة ثورة25 يناير المصرية استطاعت أن تقيم نظامها السياسي, وتسعي بايقاع سريع لتحقيق بقية أهدافها في شهر أو اثنين أو ثلاثة.. أو حتي سنة كاملة, ولسنا في حاجة إلي الذهاب بعيدا لإثبات ذلك, إذ إن تاريخ مصر السياسي يقدم هنا أبلغ الدروس. مثلا بقيت ثورة1919 تعبر حاجزا وراء حاجز, تتعثر مرة وتنطلق أخري, طيلة5 سنوات, حتي أجريت أول انتخابات برلمانية في ظل دستور1923, وكانت هذه الانتخابات في العام التالي أي عام1924 وقد لا يتسع المجال لسرد كل ما حدث من اضطرابات سياسية, وجنائية, في غضون سني تلك الثورة المصرية الوطنية الكبري, وكذلك للتذكير بما اشتعل من خلافات ومشاحنات بين زعماء الثورة أنفسهم, وقد يكفي أن نتذكر أن الاتهامات بالخيانة كانت توجه ليل نهار للفريق المختلف مع زعيم الثورة سعد زغلول, وأن الرد باتهامات مضادة لسعد ورفاقه بالتطرف والغوغائية كان يملأ أجواء الفضاء المصري, وأن دماء الشباب سالت كثيرا بسبب الصراع بين سعد وعدلي( يكن), بل إن وجها للشبه يظهر بين ما حدث من استقطاب بين المصريين حول التعديلات الدستورية بعد ثورة25 يناير2011 والاستقطاب الذي دق إسفينا بين المصريين أيضا حول دستور1923, فلم تكن لجنة وضع مشروع ذلك الدستور في عرف سعد زغلول إلا لجنة الأشقياء, ومع ذلك فقد أصبح هذا الدستور عينه عندما ألغاه الملك فؤاد هو دستور الأمة في رأي مصطفي النحاس خليفة سعد في زعامة الوفد والأمة. لا نقول ذلك دفاعا عن التعديلات الأخيرة, ولكننا نقوله بغرض واحد فقط, وهو أن الخلافات السياسية والدستورية عقب الثورات إنما هي الحالة الطبيعية, وأن التطابق التام في الآراء هو غير الطبيعي.. وماذا عن ثورة يوليو1952 ؟ لم تستقر ثورة1952 ولم تقم نظامها السياسي إلا في عام1956, وبين هذين التاريخين اندلعت صراعات وجرت محاولات انقلابية, ومحاولات اغتيال أبرزها محاولة اغتيال زعيم تلك الثورة جمال عبدالناصر في الإسكندرية, واندلعت أيضا اضطرابات اجتماعية وعمالية, وارتكبت جرائم اختطاف كان من بينها خطف بابا الأقباط نفسه علي يد متمردين عليه من أبناء كنيسته نفسها. وفي الحالتين ثورة1919 وثورة يوليو1952 نجحت الثورتان كل علي طريقتها ووفقا لظروف عصرها في نقل مصر إلي مرحلة جديدة من النهضة الاقتصادية والاستقلال الوطني والحراك الاجتماعي, وفي حالة ثورة1919 كان الإنجاز الديمقراطي لافتا, وفي حالة ثورة يوليو اكتمل الاستقلال الوطني. كل ذلك التاريخ نقرؤه اليوم في بضعة سطور كالتي سبقت, أو في كتب المؤرخين. ولكن المصريين الذين عاصروا تلك الأحداث كانوا يعيشونها لحظة بلحظة, وساعة بساعة ويوما بيوم مثلما نعيش نحن أحداث ثورة25 يناير المجيدة الآن.. وبالطبع فقد كانت لحظات وساعات وأياما مليئة بالأمل وبالألم معا, لذا فالسطور السابقة ليست دعوة إلي الأمل بغير تحفظ, فليس مطلوبا أن نضع كفوفنا علي خدودنا كما تقول الحكمة الشعبية المصرية, ونجلس في انتظار تسوية لكل المشكلات, تهبط علينا من السماء, ولكن المطلوب هو العمل الجاد بناء علي وعي وتشخيص دقيق لحل هذه المشكلات, مع إبقاء هذه المشكلات في وعينا في حجمها الحقيقي, دون تهويل أو تهوين, فما هي المشكلات المحيطة بثورة25 يناير؟ وما هي العقبات المتوقعة علي الطريق؟ { أولي تلك المشكلات.. أو بتعبير آخر, أول مصادر التهديد للثورة المصرية الجديدة هو تدهور الوضع الاقتصادي, متمثلا في انخفاض معدل النمو, واضطراب الأسواق, ومع ذلك فإن مؤسساتنا الاقتصادية سليمة لم تصب بأضرار جسيمة تعوقها عن استئناف الإنتاج وأداء الخدمات, والغالبية الغالبة منها استأنفت دورها بالفعل. وإذن يبقي لمواجهة هذا المصدر من مصادر التهديد أن نعمل.. ونعمل.. ونعمل. { المصدر الثاني من مصادر تهديد ثورة25 يناير هو الثورة المضادة, ولحسن الحظ فإن قوي الثورة المضادة معروفة, ومرصودة, وهي حصرا فلول الحزب الوطني والنظام السابق, وبعض وليس كل رجال أعماله, ثم هناك الرجعية الدينية المتمثلة في شرائح متطرفة من السلفيين والجهاديين, ومن يحذو حذوهم ممن يريدون فرض نمط معين من الاعتقاد وتفسير النص الديني علي المجتمع ككل, ثم يحكموننا طبقا لرؤيتهم التي تقصي الجميع مسلمين وغير مسلمين, لأن هؤلاء يعتقدون أنه لا يوجد من هو علي الحق غيرهم ولا يعترفون بالتوبة, فهم لا يغفرون ما يرونه ذنبا اقترفه غيرهم, ولا يتسامحون مع خطأ سواء كان خطيئة أو من اللمم, مع أن رسولنا الكريم أخبرنا في حديث شريف أن كل ابن آدم خطاء, وأن خير الخطائين التوابون. ومع ذلك, ورغم الضجيج الذي يثيره هؤلاء( السلفيون) مثل هدم الأضرحة, والاعتداء علي الإخوة الأقباط باسم حدود الله, وأولئك( فلول الحزب الوطني) كما حدث أخيرا في مباراة لكرة القدم فإن التحليل الدقيق يظهر أن الثورة أقوي منهم بكثير, فالثورة لديها الآن شرعية شعبية عارمة, وشرعية قانونية كاملة, وتأييد مطلق من كافة مؤسسات الدولة الفاعلة والقوات المسلحة بالذات, بوصفها مدرسة الوطنية المصرية, أما المتطرفون والفلول, فإنهم خارج كل شرعية سياسية وقانونية, وفي حقيقة الأمر فهم لا يملكون من مصادر القوة إلا المال وجهل أو احتياج أتباعهم, وكل هؤلاء ليسوا إلا قلة مصيرها إلي التفكك والاضمحلال ماداموا سيبقون دائما في ظلام انعدام الشرعية, وما داموا لا يستطيعون إلا ضربة هنا, وأخري هناك, رغم ما في ذلك من إزعاج لا ينكره أحد. وفي تقديري أيضا ولست هنا متفائلا أكثر من اللازم أن ذلك هو أيضا مصير متطرفي السلفيين, بل إنني أذهب إلي أبعد من ذلك, فأقول إن ظهورهم البغيض, ودعاواهم المستفزة, وأعمالهم الفجة قد أدت جميعا إلي توحد الغالبية من قوي الثورة والشعب, وعلماء الدين الإسلامي, وتيارات الفكر والثقافة والسياسة, ضدهم, فخسروا مبكرا قلوب وعقول المصريين, وفي هذا كسب لو تعلمون عظيم. { وأما المصدر الثالث من مصادر تهديد ثورة25 يناير الأخطر في نظري فهو بالضرورة غير منظور, ولكن يجب أن يكون متوقعا, فما من دولة بالغة التأثير علي محيطها الإقليمي, وعلي الأوضاع العالمية, مثل مصر تقوم وتنجح فيها ثورة كثورتنا الجديدة إلا وتقض مضاجع من راهنوا علي استبقاء هذه الدولة في حالة الضعف والانعزال. ولا أحسب أن مصريا قد نسي بعد أن رئيس جهاز المخابرات الإسرائيلية السابق قد وضع في سجل إنجازاته أمام الكنيست وقبل تقاعده أن الجهاز تحت قيادته نجح في زرع عوامل الاحتقان والانقسام والضعف في المجتمع المصري, ولن تستطيع مصر إصلاح ما أفسده هذا الجهاز فيها قبل عشرات السنين, فهل يمكننا أن نفترض وفقا لمقتضيات العقل أن المخابرات الإسرائيلية كفت عن, أو قللت من إثارتها لدواعي الاحتقان والانقسام في مصر؟ أم أن العقل يقول إن العكس هو الصحيح, وإن إسرائيل قد زادت من أنشطتها هذه داخل مصر بعد ثورة25 يناير؟ والإجابة واضحة. وماذا عن الرجعية العربية التي اعتادت محاربة كل تطور تقدمي في مصر, خوفا من امتداد رياح التغيير إلي مجتمعاتها, والتي ساهمت في تمويل وصنع الجمود والتراجع والفساد في نظام الحكم المصري السابق؟ وما علاقة هذه المرجعية بمتطرفي السلفيين وأمثالهم؟ هنا يغني التلميح عن التصريح. منذ أيام تساءلت أمام مسئول مصري كبير ومطلع عن هذه الأدوار الخارجية المفترضة, وهل نحن جادون في مواجهتها؟ فصمت برهة.. ثم قال: هناك نوع من الأسئلة الصمت عن إجابته إجابة.. ورغم الاعتراف فيما سبق بأن هذا المصدر الخارجي من مصادر تهديد ثورة25 يناير هو الأخطر, فإن مصر التي اكتسبت عبر القرون حنكة التعامل مع مثل هذه الأخطار, قادرة علي هزيمته, وستهزمه بإذن الله. المزيد من مقالات عبدالعظيم حماد