يندر ان تجد في الكتاب الذي اقدمه لك اليوم اسما صغيرا, فهو كتاب عن الكبار لكنه ليس للكبارفقط اذ تمنيت لو ان كل قاريء مصري وجد فرصة لقراءته, ففي كل صفحة لن تعبر الا أمام اسماء لعبت أدوارا عظيمة في تاريخنا ستجد أسماء مثل الفنانين حسن فؤاد وعبد الغني أبو العينين واحسان عبد القدوس وشريف حتاتة وعصمت سيف الدولة ويوسف حلمي وزكي مراد وفتحي رضوان ومحمد ابراهيم كامل وأنور السادات وأحمد حسين مؤسس مصر الفتاة وغيرهم من قامات العمل الوطني وبالاضافة اليهم الفنانة تحية كاريوكا التي يكشف الكتاب الكثير من أدوارها في الحياة وليس علي شاشة السينما. وفي ظني ان الكتاب سعد كامل. الثقافة الجماهيرية الصادر عن المجلس الاعلي للثقافة واحد من الكتب التي ينبغي ان تكون علي رأس أولويات اللجنة المنوط بها اختيار عناوين مهرجان مكتبة الأسرة في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخنا لانه ببساطة يكشف عن وجوه نضرة في هذا التاريخ و يزيل عن صورها في الذاكرة الوطنية الكثير من الغبار. والمدهش ان مؤلف الكتاب عز الدين كامل عندما بدأ في كتابه سطوره الأولي كان يتمني لو قدم سيرته الذاتية كنموذج لتجربه جيله( جيل ثورة1919) في الحياة العامة, لكنه انحاز لخيار آخر حين وجد ان سيرة أخيه الكاتب سعد كامل بإمكانها أن تعبر بصورة أفضل عن تجربة هذا الجيل, ومن ناحية أخري أعتقد أن المؤلف فضل انصاف تجربة الاخ في تأسيس الثقافة الجماهيرية وربما بهذا السبب وضعها في العنوان فهي موضوعيا تجربة فريدة تحتاج اليوم الي قراءة معمقة في ظل التحولات التي تشهدها مصر وتكشف حاجتها الي جهاز ثقافي شبيه قادر علي التعريف بمفرادت ثورة25 يناير وأهدافها, فضلا عن حماية مكتسبات الدولة المدنية من زحف التيارات السلفية. ومن المؤسف ان تجد بيننا اليوم من يعتقد أن اهداف قصور الثقافة قد تغيرت لانها لم تعد قائمة علي رسالة ثقافية تعبوية كتلك التي كرس لها جيل سعد كامل وهو أمر ينطوي علي فهم سلبي للرسالة التي خلقها سعد كامل والكوادر التي اعتمد عليها. في الاجزاء الاولي من الكتاب سيجد القاريء نفسه أمام عائلة نموذجية من عائلات الطبقة الوسطي في بداية القرن العشرين وهي عائلة يقودها معلم ترقي ووصل الي رتبة ناظر مدرسة وعمل في عدة أقاليم وستلفت نظرك ولا شك الصورة التي يقدمها الكتاب للمعلم الذي كان وقتها صاحب شنة ورنة وهي صورة تعكس مكانة الموظف العمومي اجمالا. وفي صفحات أخري سيجد القاريء خبرة جيل من الشباب اندفع دفعا الي ساحة العمل الوطني بعد ثورة1919 علي مباديء الحزب الوطني القديم وهي المباديء التي طورتها جماعة مصر الفتاة في الثلاثينيات و كان سعد كامل من بين أبناء هذا الجيل الذين دبروا وشاركوا في عملية اغتيال امين عثمان في القضية الشهيرة عام1946 وكان الي جواره الرئيس الراحل السادات ووزير خارجيته بعد ذلك ابراهيم كامل وآخرون وعلي الرغم من غالبية كتب تاريخ مصر المعاصر تغطي الكثير من تفاصيل هذه التجربة الا ان ما يرويه عز الدين كامل عنها يبدو مختلفا الي حد كبير, فهو قائم علي مساءلة للذاكرة الشفهية واستنطاق لها, فضلا عن جمعها من مصادر مختلفة أظن من بينها أوراق فتحي رضوان ومذكراته وبالتالي فالكثير منها يكشف أولا عن طبيعة المهام التي وضعها هؤلاء الشباب لأنفسهم كمشاركين في العمل الوطني خارج الخيار التقليدي لحزب الوفد الذي كان قائما علي التفاوض, كما يكشف كذلك عن مستوي الوعي بالمسألة الوطنية لدي رجال القضاء الذين امتلكوا قدرة التفريق بين الدوافع الجنائية والدوافع السياسية وهو وعي يبدو اننا ايضا في أمس الحاجة اليه الان. وتكشف أوراق الكتاب كذلك عن تفاصيل تأسيس حركة أنصار السلام المصرية والتي ضمت الراحلين محمد مندور وسيزا نبرواي وإنجي افلاطون واحمد حسين وفتحي رضوان كما يكشف عن طبيعة العلاقات التي كانت قائمة بين ابناء الجاليات الاجنبية والمصريين خلال الاربعينيات والخمسينيات لدرجة تكشف زيف الادعاء بعنصرية الشخصية المصرية, كما تكشف عن طبيعة التنظيمات اليسارية التي كانت نشطة انذاك وهي امور تغيرت كلها مع ثورة1952 التي يتضمن الكتاب تفاصيل مهمة في شأن الكيفية التي استقبلها بها المثقفون من ذوي الميول اليسارية ومن أمتع صفحات الكتاب تلك التي ترصد مساعي رجال يوليو للاستنارة باراء النخبة المصرية السياسية وبالتحديد فتحي رضوان الذي تم استخدامه في عمليات الحوار الوطني وهو أمر قد يدفع القاريء للمقارنة بين دوره وبين الدور الذي يلعبه الدكتور يحيي الجمل الان. وعلي أي حال يبقي الجزء الخاص بتأسيس الثقافة الجماهيرية ودور سعد كامل في العمل مع وزير الثقافة ثروت عكاشة واحدا من اهم الدورس التي يمنحها الكتاب لقارئه, فبفضل حوار جمع بين سجين هو سعد كامل وطبيب نفسي في مستشفي الدمرداش لم يكن غير احمد عكاشة الذي تمكن سعد من اعلان احلامه أمام شقيق لوزير الثقافة رأي ان في الكثير من تلك الاحلام ما يتضمن رؤية لتغير وجه الثقافة المصرية وهي رؤية تبناها الشقيق الأكبر الي حد أنه خرج من مكتب جمال عبد الناصر لزيارة السجين في المستشفي ليستمع منه الي خطته التي آمن بها و ودعاه الي تنفيذها معه عام1966 وخلقت ثقافة جديدة ناتجة عن إرادة الجماهير, تجربة نجح سعد كامل خلالها في تطوير خلقها من نواة الجامعة الشعبية التي تحمس لها أحمد أمين وتمكن من تحرير العمل الثقافي خلالها من بيروقراطية الجهاز الاداري والرهان علي عدد محدود من الكوادر الثقافية التي غيرت وجه الثقافة المصرية بالكامل, تجربة فيها الكثير الذي يمكن استلهامه الان.