ربطت سحر خليفة في رؤيتها الإبداعية دائما بين تحرير الأرض وتحرير المرأة, علي اعتبار ان التخلف العربي يعلن عن نفسه بفجاجة في تهميش المرأة وسطوة البطركية الأبوية, التي سرعان ما تنتقل من النواة الاجتماعية الأولي للأسرة إلي أنظمة الحكم السلطوي, مما يجعل تحرير المرأة الباب الأوسع للحرية والديمقراطية, ولكن كاتبتنا الموهوبة لاتوظف الخطاب المباشر في تأصيل هذا الوعي, بل تختار نماذجها ومواقفها الروائية علي أساس منه, وقد جعلت نضال لاحظ رمزية الاسم راوية حبي الأول فنانة تشكيلية, حتي تقدم منظورها بعين المرأة الجديدة التي تملك ريشتها ومصيرها ووعيها الحاد الشقي بالحياة. ومن الطبيعي أن تختزن في ذاكرتها نماذج النساء اللواتي قبست منهن روح التمرد, واللواتي حاولن كبت جموحها ودفن رأسها في طين التقاليد المستبدة, مهما كان حنانها الظاهر تجاههن, مثل ستها التي تستعين بالأحلام وقوة الحدس في استكناه المستقبل. لكن النموذج الأنثوي النضالي يتمثل في حسناء أرملة البطل الشهيد التي حرمت علي نفسها الحب والزواج حتي تنتقم له, وكرست جهدها لتحريض المقاتلين, فإذا وقع بعضهم في غرامها أنبأته أن مهرها غال وهو النصر علي العدو الصهيوني, يقول خال الراوية عنها كل يوم تأتينا بالأكل والشرب وملابسنا وأسلحتنا مزيتة ونظيفة, أعجب منها كيف تجد الوقت لكل ذلك, وكيف تفعله بلا كلمة ولاتنتظر حمدا ولاشكورا ثم يخاطب أخاه المثقف قائلا: تعتب علي لأني أراها شبه ملاك وقوته, أقوي مني, منها أستمد قواي وتشحنني وتجعلني أقوي مما أنا, هي بالنسبة لي مثل الأم والأخت, وامرأة أتمني لو كانت لي, وغير صحيح أنها تستقوي علي وتفزعني, أبدا بالعكس, وحين استشهد زوجها باتت أملي, باتت حلمي, لكنها وقفت تتحداني وقالت بصريح العبارة: هل تقدر يا بطل علي مهري؟ حسناء تريدني أن أكون البديل لخالها القائد وزوجها المقاتل, تريدني أن أكون البديل لمن رحلوا, وتنجح خطة المرأة الصلبة, وينخرط الخال وحيدا في الكفاح, لا استجابة لقلبه فقط ولكن لنداء الأرض والتاريخ قبل كل شئ. أما النموذج النسائي الثاني الذي يتراءي في مخيلة سحر خليفة, فتحوم حوله في روايتها السابقة أصل وفصل التي تعتبر الجزء الأول من هذه الملحمة المنيرة, ثم تعود إليه بقوة وإصرار في حبي الأول ولابد أن يكون له مرجعية تاريخية تفرض نفسها علي وعي الكاتبة, خاصة بملامحه التقدمية, وهو يتمثل في الست ليزا التي تراها الجدة بمنظور سلبي طريف, وتراها الراوية وخالها بمنظور شديد الإعجاب حاولت ستي أن تتهرب من دعوتها للبيت, لأنها تشك في أصحاب خالي وتكره ليزا فهي من شجعت أمي علي اعتماد الإشارب بدل الغطوة وهي من ساعدتها علي العمل في المستشفي وقوت عينها وجعلتها تتمرد عليها.. ليزا أندراوس ذات الأصول اليونانية, وكلمة عربي وكلمة انجليزي, وملابسها مثل الانجليز, وتأكل بشوكة وسكينة, ولاتتلمظ أثناء الأكل بهذه اللمسات الحسية في المأكل والملبس والطعام والايتيكيت ترسم الراوية طريق التحول الذي سلكته المرأة العربية في مصر والشام للخروج من عباءتها التقليدية عن طريق التعليم أولا وعدوي هذه الطبقة المختلطة من الأجانب أو نصف الأجانب المقيمين وحبهم لمعاشريهم وأخذهم بيدهم نحو التطور والرقي وصعود مدارج التحديث والرقي, بينما تشارك الرجال في التخطيط, ويقع الخال المثقف في هواها دون أن ينال بغيته منها. صراع المستعمرات: كان النزاع علي الأرض والعرض بين اليهود الغزاة والفلسطينيين علي أشده في العقدين السابقين علي إعلان الدولة الصهيونية, والعجيب أن صراع المستعمرات الذي مازال محتدما اليوم كان محك القضية منذ تلك البدايات الدامية, بينما كان الانجليز المستعمرون قبل الأمريكان هم الذين يشجعون اليهود علي قضم القري الفلسطينية وضمها للمستعمرات: استيقظنا علي صوت صراخ الفلاحين, قالوا مستعمرة اليهود قد اقتربت أثناء الليل, قام المستوطنون بنقل سياجهم وأوتادهم من مكان إلي مكان بمنتهي السرعة والخفة, فلديهم المقدرة والإمكانيات, ولديهم فرق مدربة علي العمل المنظم بدوريات, ولديهم غطاء الحكمة التي تغض النظر عن زحف المستعمرات وتجاوزها. وبما أن أرض المشاع كانت في الوسط بين القرية والمستعمرة تسانور فقد شعر القرويون ان الزحف علي أرض المشاع لا يهدد ملكيتهم الجماعية فحسب, بل يهدد بيوتهم وبساتينهم داخل قرية صانور وخارجها. لهذا فهم يشحذون طاقتهم فيتصدي وحيد لحشد الشباب وجمع الأحجار ويقومون بتسييج أرض المشاع الباقية بسلسلة مبنية علي عجل, يقودهم وحيد من فوق التراكتور صبيحة عرسه بحسناء, لكن فرحتهم لم تدم طويلا, إذ استيقظت القرية بعد يومين علي ضجيج ورائحة دخان, وحين خرجوا رأوا التراكتور يشتعل بنار عظيمة ولهب أسود, وأجزار السلسلة قد انهارت, والزرع الأخضر كأنه محروق بألف تراكتور, جذوره ظاهرة علي وجه الأرض والتراب الأحمر مهروس تحت جنازير الدبابات, ولا وجود لشباب دورية الحراسة, حيث قام اليهود باختطافهم كل ما بنته القرية بات حطاما, عادت هواجس المختار والمجلس المحلي يسيطر علي الجو, وتذكر الجميع بما حل بالقرية من خراب ودمار حين حاول أبوكمال قائد الثورة فيما بين6391 9391 المواجهة ولم يختبئ أو يستسلم مواجهة الانجليز واليهود قال المختار فعل عبثي لا نقدر عليه, هو انتحار وليس بطولة, أبوكمال حين واجه الانجليز هنا في صانور ارتكب خطأ دفع ثمنه هو ورجاله, ونحن أيضا دفعنا الثمن هذا هو جذر المشكلة ونموذجها المتكرر في حركات المقاومة, الصراع علي المستعمرات وانتزاع الأرض بالحيلة حينا وبالقوة في معظم الأحيان, وتأييد القوي الاستعمارية, الانجليز القدماء والأمريكيون الذين حلوا محلهم, والخياران التاريخيان: المواجهة المكشوفة في الحروب المجهضة أو استخدام الضربات المفاجئة والانتظام فيها حتي تتحول حياة المحتل إلي جحيم يضطر معه إلي إقرار الحق المغتصب. ولأن القضية لم تحسم علي الأرض حتي الآن فإن الوعي الحاد بها واستحضار الشواهد التاريخية عليها يرد الاعتبار للانسان الفلسطيني الذي لم يدخر جهدا منذ البداية في شق طريق الكفاح والتضحية, إلي جانب إعادة طرح الأشكال الملائمة للمقاومة في الفترات المختلفة بحرارة وتمعن. عمل الحسيني وهو ابن أخي المفتي بجد في تنظيم صفوف المجاهدين وحصار المستعمرات المحيطة بالقدس حتي أكلوا أوراق الشجر, لكن أعوزه السلاح فذهب إلي دمشق لملاقاة الزعماء العرب وطلب الأسلحة من مندوبي الجامعة العربية التي شكلت قيادة رسمية تجمع الأسلحة وتضعها في المخازن, لكنهم كانوا قد التزموا بعدم التدخل في الوضع إلا بعد انسحاب قوات الانتداب, خذلوا الحسيني القائد المنظم الجسور فرجع خائبا ليخوض معركة خاسرة ضد اليهود والانجليز معا, تعتمد الكاتبة في توثيق مادتها التاريخية في هذه القصة المثيرة علي مخطط مذكرات عبدالقادر الحسيني الذي نشره أمين سر جيش الجهاد المقدس قاسم الريماوي عام0591 م, ومع أن مؤلفة الرواية في هذا الشق التاريخي الخطير تتحصن بالوثائق فإنها تجد نفسها محاصرة بالنهايات التي لا تملك تغييرها, غير أنها تبث في مادتها طاقة من الحيوية الزاخرة الخلاقة والخيال الخصب القادرعلي تجسيد المواقف والشخوص, بما يجعلنا نعيش معها قصة الكفاح الشعبي المجهض ببطولاته الرجولية والنسائية, وروحه الاستشهادية وعواطفها النبيلة التي تتأجج بعنف في أتون الصراع. فوداد أم نضال تسعف القائد الجريح في أولي معاركه وتنقذ حياته, لكنها تقعس متيمة في غرامه, وتمضي هائمة في ركاب قواته, ونضال نفسها تلتهب جذوة حبها لربيع قبل أن تنطفئ بكر الأيام والسنين, وعندما تتعانق مصائر الأفراد مع أقدار الوطن السليب فإن الذكريات التي تنسجها الكاتبة بتقنياتها الفنية العالية ومهارتها الأسلوبية الشاعرية ولحظاتها المتوهجة تضع خواتيم الأحداث مع نهايات العواطف في مرمي رياح الأيام وهي تذرو الأرواح بددا لتنبثق شرارة جديدة من الأمل في المقاومة المتجددة المستميتة بدون قائد أبوي كي تستعيد الأرض والعرض بينما ترفرف عليها أرواح الشهداء ورماد القلوب المحترقة بحب الوطن وأهله الغوالي. المزيد من مقالات د. صلاح فضل