بعد أسبوعين من فاجعة كنيسة القديسين في الاسكندرية آن أن نكفكف دموعنا لنتساءل.. ونهديء من نفوسنا الملتاعة لنتدبر.. ونحول هذا الحزن النبيل في دواخلنا إلي قوة للتفكير. كانت الجريمة في توقيتها ومكانها وأسلوب تنفيذها مروعة وخسيسة. لكن لعل المؤمنين الأبرياء الذي راحوا ضحية لها يطهرون وعيا ملتبسا ويوقظون ضميرا كسولا لترشدنا أرواحهم في تلمس الكثير من الحقائق. ولن نبلغ هذه الحقائق إلا بقدر كبير من الشجاعة والتجرد.. وهما صفتان مطلوبتان من جميع المصريين بلا استثناء. الحقيقة الأولي: أن المأساة فيما حدث علي الرغم من بشاعتها ودناءتها لا ينبغي أن تفقدنا صوابنا. وجزء من هذا الصواب أن ندر ك أن الوطن مستهدف بمسيحييه ومسلميه معا. كان المؤمنون المسيحيون هم أكثرية القتلي والمصابين وكانت مصر في الجوهر هي الضحية! والواقع أن رحي الحرب الدائرة في العالم والمنطقة ضد الإرهاب أو باسمه مازالت تختزن الكثير من الأسرار! ثمة أسئلة حول تنظيم القاعدة المركز الرئيسي أو عبر فروعه ووكلائه في المنطقة ومن هو الطرف المسئول وما هي حدود المسئولية أو الدور. هذه أسئلة يجيب عنها رجال الأمن بوسائلهم وخبراتهم. لكن نستطيع بالعقل المجرد أن نستوعب حقيقة أن هناك مصالح تتقاطع واختراقات تتم وتوظيفات خفية غير مرئية تستخدم قوي الإرهاب أو التطرف أو الجنون لتحقيق مآرب أخري في إطار أجندات أخري. والتاريخ يحفل بقصص كثيرة من هذا القبيل. المهم ألا نخلط الأوراق في تقييم ما حدث وترتيب المسئولية عنه. يري البعض أن هناك اجراءات أمن كان يجب اتخاذها عقب تهديد تنظيم القاعدة منذ شهرين مثل تركيب كاميرات للمراقبة هذا منطقي في ذاته. لكن الإرهاب الطائش من خلال شخص مفخخ أو عبوة متفجرات أسفل سيارة لا توقفه مثل هذه الكاميرات حتي في أكثر الدول تقدما ورغم ذلك فقد كان يمكن لكاميرا مراقبة أن تساعد كثيرا في كشف الحقيقة ومعرفة الجناة. الحقيقة الثانية: أن هذا الاعتداء الجبان قد تم في ظل مناخ مجتمعي لا يخلو من التعصب, وهو مناخ ممتد منذ فترة طويلة في ربوع هذا الوادي الطيب الذي كان التسامح سمة أساسية في حياة أبنائه من المسلمين والمسيحيين معا. وهنا يبدو مظهر آخر للالتباس. فقد خلط البعض ربما بتأثير مأساوية ما حدث بين المسئولية عن تنفيذ هذا الحادث الإجرامي وبين المناخ الذي تم فيه. وهو مناخ يلاحظ أننا جميعا كمصريين لم نبرأ في ظله من آفة التعصب والتربص المتبادل. وهو ما ظهر في السنوات الاخيرة علي شاشات بعض الفضائيات الدينية التي تنافست في وصلات اتهام ديني متبادل, وتعاصر ذلك مع بعض المقولات والتصريحات غير الملائمة وغير المسئولة عن وقائع وأحداث تجاوزها التاريخ بالنسبة لمجتمع واحد انصهر أبناؤه معا منذ أكثر من ألف عام. ولعلنا نحتاج اليوم إلي جهد ثقافي وتربوي وتعليمي هائل لمواجهة آفة التعصب في حياتنا. وهو تعصب لم يقتصر علي مجال التنافس الرياضي وحده بل شمل العديد من مناحي الحياة في مجتمعنا الواحد. فنحن متعصبون لانتماءاتنا الدينية والسياسية والثقافية والجغرافية. وهناك فارق بين أن يدافع المرء عن انتمائه لدين أو فكرة سياسية أو ثقافية وبين أن يتعصب لها. هو انتماء جامد مطلق أعمي أحيانا وأخطر ما فيه أنه يلغي الآخر كلية سواء كان هذا الآخر دينا مختلفا أو موقفا سياسيا أو انتماء ثقافيا أو فكريا أصبحنا أسري لمجموعة من الثنائيات التي لا نري غيرها وكأننا فقدنا القدرة علي تلمس مناطق وسطي للحقيقة تتطلب قدرة عقلية واستعدادا نفسيا لإدراكها علي الأقل. وفي خصوص مناخ التعصب الديني فإن حاجتنا اليوم ملحة لأن نبحث عن جوهر المشترك الروحاني والقيمي بين الإسلام والمسيحية بأكثر مما ننشغل بالتنقيب والتفتيش عن جزئيات الاختلاف الشكلي والطقوسي. فهذا رب واحد أحد للكون أسأنا الأدب جميعا بالتعصب وممارسة التنابذ والكراهية باسمه عز وجل. الحقيقة الثالثة: أننا نحتاج لمشروع وطني جامع نصرف فيه طاقتنا التي أهدرناها في مماحكات وتأويلات دينية شتتت جهودنا وبثت الشكوك والفرقة في دواخلنا. نحلم بمشروع وطني جامع وربما قومي أيضا يتجاوز انتماءاتنا الدينية والطائفية والعرقية وتنصهر فيه طاقتنا, فكل دقيقة تمر علينا اليوم بلا جدوي هي سنوات ضائعة غدا من عمر أجيالنا المقبلة. المشكلة اننا لا نعرف ما هو هذا المشروع الوطني الجامع, وهل يغيب عنا مثل هذا المشروع أو أنه قائم بالفعل لكننا نحن الذين نضل الطريق اليه؟ اتساءل احيانا: أليست عناوين التنمية وحقوق الإنسان والتنوير صالحة كأولويات ثلاث لمثل هذا المشروع الجامع؟ الاجابة بدهية بالطبع لكننا ننسي أن التنمية تفترض مكافحة الفساد, وحقوق الإنسان تتطلب إعلاء قيم الكرامة والمساواة وتكافؤ الفرص, والتنوير يعني أن نعلنها منذ الآن مواجهة شاملة ضد تخلف نظامنا التعليمي الأخرق والقضاء علي الأمية اللذين أفرزا مناخات الجهل والتعصب والكراهية. سينتهي الاحتقان الديني واحتقانات مجتمعية أخري يوم ننجح في مكافحة الفساد والبطالة ونحمي حق المصريين جميعا مسيحيين ومسلمين, إناثا وذكورا, بسطاء و ذوي وساطة في المساواة وتكافؤ الفرص فيما تتيحه الدولة من حقوق ومناصب ومزايا ونصلح نظام التعليم الذي به يسود التنوير وتتحقق التنمية في آن معا. الحقيقة الرابعة: وهي تثير الأمل في النفوس هذه المرة. فقد كانت فاجعة كنيسة القديسين في الاسكندرية مناسبة مؤلمة وحزينة بلا شك لكن أعاد فيها المصريون اكتشاف أنفسهم. أجل.. أعادت مصر اكتشاف ذاتها في المظاهرات والتجمعات التي اندلعت تلقائيا ليعبر المصريون فيها عن لوعتهم المشتركة وحزنهم الواحد وتضامنهم الصادق, لن أنسي مشهد دموع مصريات محجبات وهن يهتفن ضد الإرهاب الآثم. لن أنسي صوت طفلتي وهي تهاتفني من مصر غاضبة مصدومة تطلب مني الاطلاع علي صور المأساة علي مواقع الانترنت. عادت إلينا الثقة من رحم الألم والأحزان, وعلي الرغم من التشويش والتشكيك فإن مصر الواحدة الموحدة هي اليوم أكثر صدقا وتضامنا والتحاما من أي وقت مضي. كان حديث المهندس نجيب سويرس علي إحدي الفضائيات نموذجا للوطنية والعقلانية والتسامح. قال من الكلمات والتعبيرات ما يستحق أن تتضمنه الدروس التربوية لتلاميذنا في المدارس حول مفهوم وواجبات الانتماء للوطن. وقبله بأيام كان حديث فضيلة شيخ الأزهر عميقا مستنيرا وهو يبدد بعض الممارسات البائسة الكئيبة حول مضايقة الآخرين في ممارستهم شعائرهم حين نتعمد بناء مسجد في مواجهة كنيسة. السؤال الآن: هل يمكن لروح المصريين الجديدة أن تستمر وأن تبني علي هذه المشاعر الصادقة والأفكار المستنيرة لتبدد مناخ الاحتقان الديني الذي ساد مجتمعنا منذ فترة؟ من السهل ومن البدهي أن نجيب علي الفور. لكن السؤال الأصعب هو كيف؟!!!