لم تستطع وقائع الاستفتاء علي مصير جنوب السودان ولا الأحداث المتسارعة في تونس ولبنان برغم أهميتها, أن تنسيني وعدي في الأسبوع الماضي بمواصلة الكتابة عن مرحلة ما بعد جريمة كنيسة القديسين بالإسكندرية. قلت في نهاية سطور مقال الاحد الماضي, كيف نحمي مصر وشعبها ونصون أمنها القومي, ونقطع الطريق علي هذه المحاولات الإجرامية بسد الثغرات التي يحاول هؤلاء المجرمون من أعداء الوطن استغلالها والنفاذ منها للنيل من وحدتنا؟ جريمة الإسكندرية هدفت إلي دفع البلاد لحرب طائفية, مستغلة هذا المناخ الغريب علي شعبنا الذي اتسم بأجواء دينية طائفية ظلت تنتشر منذ عقود في سماء وطن عرف بتسامحه وتعايشه ووحدته, وعاش مواطنوه في رباط دائم ولم يعرفوا مطلقا أي نوع من أنواع الفرز الطائفي. حاول الإرهابيون استغلال هذا المناخ, بجريمة نكراء يجب علينا بعدها الاعتراف بمسئوليتنا جميعا في تكرار هذه النوعية من الجرائم حتي وإن اختلفت أهدافها وتغير القائمون عليها وتنفيذها.. مسئوليتنا هنا تتلخص في أننا تعاملنا مع كل جريمة علي حدة, ولم نلتقط الخيط الذي يربط بينها, فحادث الحسين في فبراير عام9002, برغم اختلاف وقائعه وتفاصيله لا يمكن فصله عن حادث جريمة نجع حمادي في العام الذي يليه والخيط نفسه, يمتد لحادث العمرانية وحتي حادث الإسكندرية وكل الحوادث التي أخذت بعدا دينيا وطائفيا منذ عشرات السنين,تراكمت فيها حالات وحوادث طائفية أوجدت استقطابا واحتقانا لا يغيب عن عيون الحريصين علي وحدة وأمن واستقرار هذا الوطن, رصدت العيون تراجع أفكار التفكير العلمي وإعمال العقل, وقيم العدل والتسامح, وحق الاختلاف في المجتمع, وتابعت انتشار أفكار التطرف والعنف والتميز بين المصريين وحصار كل فكر منفتح يؤمن بالحوار والمساواة بين البشر, وحق الإيمان والاعتقاد والإبداع, وشهدت تقسيم المصريين علي أساس ديني في الإعلام والمناهج الدراسية والحياة اليومية, وشاهدت عمليات صبغ المجتمع بصبغة دينية وإعطاء الأماكن والشوارع والتجمعات السكنية والأحياء والمحلات أسماء ومعاني كانت تستخدم منذ قرون, رأت العيون عمليات استبدال القانون بالعرف, وإسقاط حق الدولة والمجتمع في تنفيذ القانون وإيجاد مرجعيات تم استخدامها سياسيا وامتد دورها وصلاحية فتاويها للهندسة والطب والاقتصاد حتي وصل إلي رصف الطرق وبناء الكباري, حاول البعض اللعب علي وتر أسلحة المجتمع وحاول آخرون العزف علي لحن الاضطهاد, ولم ننتبه إلي أن هناك من يحاول النيل من رصيدنا الحضاري كوطن متماسك ومتحد, فشلت المؤامرات طوال التاريخ في تقسيمها أو التفريق بين ابنائه. لم يعد مقبولا الآن أن يطعن أحد في ديانة آخر, ولم يعد مقبولا ايضا الاعتداء علي مكان للعبادة يذكر فيه اسم الله, وعلينا أن نتصدي لحالات التعصب المتبادلة التي تظهر من حين لآخر, وغزتها جماعات وأفراد وتيارات وصحف وفضائيات ودعاة من هنا وهناك, مما أوجد في نفوس بعض من المصريين شعورا زائفا بالتفوق أو بالاضطهاد, ومهد المناخ لحالة من الترصد والاستنفار بعد أن تسربت ثقافة الانطواء والعزلة والكراهية ونجحت في بعض الاحيان في جعل الانتماء الديني يسبق الانتماء الوطني. لقد كانت جريمة كنيسة القديسين بالإسكندرية هي الاختبار الحقيقي لقوة شعبنا ووحدته وإعلانا جديدا علي تمسكه بتراثه الحضاري ورفضه لكل محاولات تقسيمه ولم يعد أمامنا الآن وفي إطار حوار وطني جامع وبعد أن عرفنا طبيعة مايواجهنا ألا نترك الساحة لدعاة الفتنة والتعصب وأن نعترف بان هناك الكثير من القضايا والمشكلات الجديرة بالنقاش مع فئات كثيرة في المجتمع, مع تأكيد أنه يجب مناقشتها في إطارها الوطني.. حوار ونقاش يتطرف لكل القضايا انطلاقا من حقوق الوطن والمواطن والمساواةالكاملة بين المواطنين المصريين في إطار السعي لتحقيق مجتمع عادل وديمقراطي يعطي فرصا متكافئة لمواطنيه يحترم معتقد كل إنسان, دون إحساس بالتفرقة أو التمييز, ويكون فيه الدستور مرجعية وملاذ أي مواطن, وقانونا يردع كل من يحاول العبث بأمن الوطن واللعب بمشاعر الناس ويخلط أهدافه السياسية بالدين. لقد أعد المجلس القومي لحقوق الإنسان تقريرا مهما عقب احداث جريمة نجع حمادي أي منذ عام تقريبا ولم يسمع به أحد, ووضع التقرير يده علي أسباب التوتر الطائفي وطبيعته, وتضمن02 اقتراحا وتوصية تتعلق بدور كل مؤسسات الدولة والمجتمع لمواجهة هذه الأحداث ومنع تكرارها واستغلالها وإيجاد حلول لها, وكان أبرز هذه التوصيات ضرورة دعم المشاركة الكاملة بين أشقاء الوطن في جميع المجالات الرسمية والمدنية دون أي تمييز, وزيادة تمثيل المواطنين المسيحيين في الحياة السياسية والوظائف العامة علي جميع مستوياتها وفقا لمعايير الكفاءة ومواجهة مايهدد وحدة البلاد الوطنية, سواء كان تعصبا دينيا أو جنوحا طائفيا, ومعاقبة كل مسئول يثبت ارتكابه جريمة التمييز والإسراع في اتخاذ اجراءات لتأكيد الصفة المدنية للدولة القائمة علي مبدأ المواطنة, وترجمة المادة الأولي من الدستور بمشروعات قوانين لتحويلها الي واقع ملموس, يدعم قواعد المساواة وعدم التمييز وإعادة النظر في الخطاب الإعلامي والديني والمناهج الدراسية ومعالجة الجرائم التي تحدث بأسلوب رادع ووفقا للقانون والإسراع في إصدار قانون تنظيم وبناء دور العبادة مع تأكيد وحماية حرية إقامة الشعائر والاعتقاد ومبدأ المساواة والعدالة بين المواطنين والكف عن محاولات تقسيم المصريين وتديين الدولة. لا أعرف لماذا تم تجاهل هذا التقرير المهم وتوصياته, برغم انه يضع يده علي علاج الجرح, انه تقرير اللحظة المناسبة لمرحلة مابعد إسقاط المؤامرة وهو تقرير النداء الأخير للوطن الذي يجب أن نستجيب إليه.. حتي لا نعطي الفرصة لأعداء الوطن لتدبير مؤامرات أخري. المزيد من مقالات مجدي الدقاق