حدث في اليوم الأول من الألفية الثالثة.. تجربة من وحي الخاطر خضتها مع صحفي أمريكي من جريدة وول ستريت جورنال, اسمه ستيف ستيكلو. وستيف يهودي الديانة تعرفت عليه حين كنت أدرس في كلية الصحافة بجامعة بوسطن قبل عشرين عاما, وتصور في البداية ان ديانته ستكون عائقا في التواصل الإنساني بيننا, فقلت له: لسنا ضد اليهود علي الإطلاق ولكننا ضد الصهيونية وجرائمها ضد الفلسطينيين في إسرائيل. وكان ستيف قادما إلي القاهرة بعد أحداث الكشح الأولي, تلك الاحداث الطائفية البغيضة التي نشبت قبل عشر سنوات, وجاء محملا بتصور ساذج عن حال البلاد والعباد والصراع الطائفي المشتعل بين المصريين: مسلمين ومسيحيين! وظن ستيف أنه بمجرد خروجه من مطار القاهرة سيرصد أحداثا جارية في الشوارع وناسا تتربص ببعضها البعض, لكنه صدم صدمة كبيرة حين اكتشف أن المدينة هادئة للغاية ولا أثر ملموس فيها لأي حوادث طائفية, فلا قوات شرطة منتشرة في الميادين, ولا حواجز تفتيش, ولا دوريات راكبة.. الناس تتحرك وتضحك وتسهر بشكل عادي للغاية. كلمني في التليفون يسألني: كيف نجحت السلطات في إخفاء الطائفية عن العيون؟.. وعلق قائلا: فعلا السلطة في دول العالم الثالث مخيفة! قابلته في مطعم شهير, وراح يتحدث عن علاقة المسلمين والمسيحيين في مصر كما لو أنه يتحدث عن البيض والسود في أمريكا في الثلاثينيات والأربعينيات, وما كان يتعرض له الأمريكيون الأفارقة من اضطهاد يصل إلي حد الحرمان من دخول جامعات أو مطاعم معينة. قاطعته: هذه أوهام.. المصريون ثقافة واحدة وملامح واحدة وروح واحدة, ويستحيل أن تفرق مسلما عن مسيحي في أي مكان عام علي أرض مصر! تحداني قائلا: هذه مبالغة! دعوته إلي زيارة بيتين لأسرتين من شبرا التي عشت فيها ثلاثة أرباع عمري, وطلبت من كل أسرة أن تزيل العلامات الدالة علي ديانة الأسرة, وألا تتحدث معه في أي موضوع ديني يدل عليها.. وفعلا زار ستيف الأسرة الأولي ثم الثانية علي يومين وجلس مع كل منهما ثلاث ساعات تقريبا وانهال عليهما بطلقات مدفع رشاش من الأسئلة في كل شيء من أول الغناء والسينما إلي الزواج وإدارة الأعمال كأنه جهاز لكشف الكذب, وبعدها سألته: أيهما مسلمة وأيهما مسيحية؟! نظر إلي شذرا متهكما: بالقطع إما مسلمتان أو مسيحيتان؟! أخذته إلي البيتين بعد أن أعادا العلامات, فأصيب بدهشة لم يفق منها إلا بعد ساعات وهو يضرب كفا بكف.. فقلت له: لنا نفس العادات والتقاليد واللكنة والتعبيرات والملامح والعقلية والوجدان.. لا نختلف إلا في الطريقة التي يعبد بها كل منا الله.. لسنا عرقين ولا ثقافتين ولا جنسين, لسنا كالهند أو أمريكا أو الصين, ناهيك أن مصر لها سطوة ثقافية وروحية تتسلل إلي من يعيش علي أرضها, فتصهره فيها كما تنصهر المعادن في سبيكة واحدة فتكتسب خصائصها وصفاتها! فسألني: والأحداث الطائفية؟! قلت: عوارض أزمة نعيشها وليست هي الأزمة! حدث في نوفمبر عام..1919 أراد الإنجليز أن يلعبوا بالورقة الطائفية, وأسندوا رئاسة الوزارة إلي يوسف وهبة باشا, وكان وزيرا في وزارة محمد سعيد المستقيلة إثر مظاهرات عنيفة ضدها, وكان شعارها هو المقاطعة الشاملة للجنة ملنر التي جاءت إلي مصر تتحري أسباب الثورة.. وكان من المتوقع أن تستقبل هذه الوزارة الجديدة اللجنة ويتباحث ملنر معها علي عكس تخطيط الوفد للمقاطعة, فإذا ثار الناس علي الوزارة فيذيع المتربصون بأن السبب يرجع إلي قبطية رئيس الوزارة.. وفي الوقت نفسه يظهر الأقباط كما لو أنهم راغبون في الاتصال بالانجليز منفردين.. وعلي الفور دعت الكنيسة القبطية الكبري لاجتماع, فحضر ألفان من المصريين غصت بهم القاعة, ورأس الاجتماع القمص باسيلوس وكيل البطريركية, وأرسلوا برقية إلي يوسف وهبة: الطائفة القبطية المجتمعة هنا تحتج علي إشاعة قبولكم الوزارة, إذ هو قبول للحماية ولمناقشة لجنة ملنر وهذا يخالف ما أجمعت عليه الأمة المصرية, فنستحلفكم بالوطن المقدس وبذكري أجدادنا العظام أن تمتنعوا عن قبول هذا المنصب الشائن. قد يمتعض بعض الظرفاء الذين يسخرون من كل شيء ساخرين: التاريخ.. التاريخ.. كلمونا عن الواقع الصعب الآن وكيف نخرج منه؟! السؤال صحيح, لكن صياغته يشوبها جهل وعجرفة, فالتاريخ الواحد للأمة المصرية يرسم لنا كيف تشكلت ونما وعيها الوطني.. أسبابا وشروطا وعناصر, فالماضي ليس مجرد أحداث نتسامر بها أو نحن إليها متصورين أن ثمة عصرا ذهبيا يمكن استرداده, وعلينا أن نسافر إليه بأذهاننا وعاداتنا وأفكارنا.. وهذه فكرة عبثية ثبت عجزها عن الحياة منذ بدء الخليقة وإلي الآن.. وإنما الماضي هو تجارب مجتمعية لها دلالات في فهم السلوك الإنساني سواء كان فرديا أو جماعيا. ولكن: هل تظل هذه الحالة المصرية مجرد ذكريات مدفونة في كتب التاريخ؟!, ما الذي يمكن أن نفعله كي نحافظ علي سلامة بنيان أمتنا المصرية.. وكيف نصرف شيطان الفتنة الذي حضرناه دون وعي ولا فهم حتي لصق بنا ولوث نهر حياتنا معا كما لوثنا نهر النيل؟! يقول المستشار طارق البشر في كتابه المهم المسلمون والأقباط في إطار الجماعة الوطنية: لا يضمن أحد لأحد في هذا البلد شيئا, إلا حقه في المساواة السياسية والاجتماعية, وإلا حقه في المشاركة.. إن المساواة تعني الاتحاد وهي تتضمن المشاركة وهما من أوضاع المواطنة.. لم تبن وحدة مصر في سنة1919 بنفي الهلال أو الصليب, بل كان رمزها احتضان الهلال للصليب وهو يعني احتضان الغالبية الدينية للأقلية, ونحن لا نبحث عن صيغة فناء, ولكن عن صيغة وجود, وجود حي قوي, وحسبنا: المساواة والمشاركة في الوطن والتواد والتحابب في التعايش والتزاور في الدور والتجاور في القبور. هذا هو الطريق ولا طريق غيره.