الحادث الإرهابي الدموي الذي استهدف مواطنين مصريين مسيحيين بالإسكندرية وحول الاحتفال بالعام الميلادي الجديد إلي مجزرة دموية مروعة راح ضحيتها عدد كبير من الأبرياء, استولي علي كل الاهتمام وطرح أسئلة كبيرة تحتاج منا جميعا إلي إجابة: من قتل هؤلاء الأبرياء؟ وهل بنينا بالفعل أسس اجتماعية وثقافية واقتصادية وسياسية للوحدة الوطنية, أم أنها تحولت إلي مجرد أغان تحلق في واد, والمجتمع في واد آخر؟ وكيف نواجه هذه الأزمة بصورة جدية قبل أن تصبح بلادنا العظيمة عرضة للمزيد من عوامل النخر في وحدتها الوطنية. ومنذ وقوع هذه الجريمة الإرهابية طرح الكثير من الآراء حول مسئولية تنظيم القاعدة عنها, أو مسئولية الكيان الصهيوني وأجهزته الأمنية بصورة مباشرة أو من خلال استخدام عملائه في تسهيل قيام مجموعة دينية إرهابية بتنفيذ الجريمة في إطار الصراع الخفي بين هذا الكيان وبين مصر, أو أن الجريمة تقع ضمن الأعمال الإرهابية الطائفية المحلية. لكن الكشف عن المسئول المباشر عن هذه الجريمة هي مسئولية الأجهزة الأمنية التي نأمل أن تفلح في القيام بها. أما القضية الأهم فهي ضرورة توظيف التعاضد النخبوي والاجتماعي بين المسلمين والمسيحيين الذي استنفره هذا الحادث الإرهابي المروع, في طرح ومعالجة الطائفية المقيتة التي انتشرت في مصر, وبحث كيفية تطوير الأسس الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية للوحدة الوطنية. وإذا كان هناك اتفاق علي أن الدول الأكثر نجاحا في تحقيق التكامل الوطني والوحدة الوطنية, هي تلك التي تتبني قاعدة المواطنة في العلاقة بين الدولة والمواطنين, بحيث يتساوي الجميع في الحقوق والواجبات أمام الدولة والقانون وفي نصيبهم من التنمية الاقتصادية وفرص العمل, أيا كانت انتماءاتهم الجغرافية والعرقية والدينية... إذا كان هناك اتفاق علي هذا الأمر, فإن معالجة تزايد الطائفية في مصر تتطلب التبني الحقيقي لهذه القاعدة الذهبية لبناء الوحدة الوطنية. وسوف ينبري البعض للقول بأننا نتبناها بالفعل, لكن ذلك غير حقيقي في الواقع العملي, حتي لو كانت هناك بعض النيات الطيبة في هذا الصدد. وحتي يمكننا القول إننا نتبني نموذج المواطنة كقاعدة للعلاقة بين الدولة والقانون والمواطنين, فإننا علي سبيل المثال لابد أن نضع قانونا موحدا للأبنية الدينية. ومثال آخر هو المناهج الدراسية وعلي رأسها منهج اللغة العربية الذي يتضمن في كل المراحل التعليمية نصوصا إسلامية وآيات قرآنية تدرس للمسلمين والمسيحيين معا, فتلك النصوص من المفترض أنها تدرس في علاقتها بالبلاغة وجماليات اللغة والحكمة والقيم النبيلة التي تنطوي عليها, وليس باعتبارها تعليما دينيا لأن هذا التعليم الديني يكون في منهج الدين الذي يدرسه المسلمون والمسيحيون بشكل منفصل, بمنطق أن الكل يتعلم دينه, رغم أن الأفضل والأرقي هو تدريس الأديان المقارنة. ومن المؤكد أن القرآن والإنجيل وكل الكتب الدينية السماوية والوضعية بما فيها الديانات المصرية القديمة تمتلك نصوصا عظيمة تتضمن الكثير من الحكمة والقيم النبيلة والبلاغة اللغوية. أما انتشار التعليم الديني العام في كل مراحل التعليم ضمن المعاهد الأزهرية الابتدائية والإعدادية والثانوية المقصورة علي المسلمين والتي تركز علي التعليم الديني, لا لتخريج الدعاة والطلاب لكليات الشريعة والقانون وأصول الدين, بل لتخريج الطلاب لدخول كل الكليات الإنسانية والعلمية العادية في جامعة الأزهر, بما يجعل هذا التعليم العام الجامعي وما قبله, وفي الإنفاق العام عليه, وليس مفهوما من أي منطلق للمساواة وللتحديث وللتنوير أن تكون هناك كلية طب أو هندسة أو تجارة في جامعة دينية مثل جامعة الأزهر, فليس هناك طب إسلامي وآخر مسيحي وآخر يهودي وآخر وثني أو كافر, فالطب هو الطب والهندسة هي الهندسة, والتعليم العام ينبغي أن يكون عاما وحديثا ومفتوحا لكل أبناء الأمة علي قدم المساواة. أما التعليم الديني فيجب أن يكون مقصورا علي مدارس وكليات أصول الدين والشريعة والقانون والمقرئين, وكليات اللاهوت وغيرها من الكليات الدينية. أما الطائفية في الإعلام الرسمي والخاص, فإنها آفة تفاقمت في السنوات الأخيرة, وليس المطلوب هو تحقيق التوازن الطائفي بإنشاء قنوات مسيحية ووضع برامج دينية مسيحية في القنوات الرسمية, لأن هذا السباق الطائفي والإتجار بالدين لن يشعل سوي المزيد من الاحتقانات والحرائق الطائفية, والأفضل أن تظل الأمور الدينية داخل المسجد والكنيسة بأيدي المتخصصين الذين ينبغي إعدادهم علميا ودينيا بصورة جيدة وأن يكون حاضرا لديهم أننا أبناء وطن واحد ينبغي عدم إثارة الحساسيات بين أبنائه, بل ينبغي البحث عما يوحد بينهم. أما إنشاء قوي سياسية دينية فإنه تهديد حقيقي وحاسم للوحدة الوطنية في بلد مزدوج الديانة مثل مصر, بل إنه تهديد لتلك الوحدة حتي في البلدان ذات الدين الواحد, لأن كل قوة سياسية دينية تعتبر نفسها مالكة لمفاتيح الدين, ويتحول الخلاف بينها وبين أي قوة دينية أخري( من نفس الدين) إلي تكفير واستبعاد, بما يهدد بتمزيق الكيان الاجتماعي للأمة ويجعل العنف وحده هو أداة إدارة الخلافات بين قوي سياسية تتنازع ملكية الدين الذي ينبغي أن يبقي في عليائه بعيدا عن الاستغلال السياسي الرديء له.