حكومة ظل, وبرلمان مواز وآخر شعبي, وجمعية وطنية للتغيير واستقالات لبعض رموزها, وندوة قانونية ينظمها الوفد للبحث في أساليب اسقاط مجلس الشعب دستوريا, وبحث عن رمز للتغيير تلتف حوله قوي المعارضة, ودعوات من نواب الاخوان الخاسرين للشعب لكي يثور ويسقط النظام. هذه بعض عناوين تتصدر بها تحركات أحزاب وقوي معارضة لم توفق في انتخابات مجلس الشعب الاخيرة. ثمة قبول بالواقع من ناحية ورفض له من ناحية اخري, والمعضلة التي تواجهها قوي المعارضة أنها تطرح أهدافا كبيرة وتنادي بالحد الاقصي للفعل السياسي دون أن يتوافر فيما بينها الحد الادني من التوافق. وهنا تتبدي أولي سمات محنة المعارضة المصرية, بكل درجاتها. يقال أن هناك اتفاقا علي بنود الاصلاح والتغيير السياسي المرغوبة, وبعض رموز المعارضة تري في النقاط السبع التي طرحها د. محمد البرادعي حين عاد إلي مصر كداعية للتغيير, نقاطا تلخص أهداف كل القوي السياسية جميعها. بيد أن السؤال الذي لا توجد إجابة عليه, هو لماذا لم تقف المعارضة وقفة رجل واحد وراء هذه المطالب إذا كانت بالفعل تري في النقاط السبع أهدافا لا غبار عليها؟. أتصور ان الاجابة ببساطة تعود إلي أن قوي المعارضة منقسمة علي نفسها, وهو انقسام ليس في الأسلوب وحسب وانما أيضا في مستوي المؤسسية الذي يعمل به كل فريق علي حدة. والأمران معا يجعلان كل طرف حزبي او غير حزبي يري في نفسه القوة السياسية والشعبية الاكبر والأحق بالقيادة وأن علي الآخرين أن يكونوا من التابعين. وبالطبع لا يقبل الأخرون ذلك. المؤسسية هنا ليست قيدا علي الفعل, ولكنها موروث تنظيمي يضع النقاط علي الحروف. أنظر مثلا إلي الطريقة التي تدار بها مرحلة ما بعد الانتخابات في كل من حزب الوفد والحزب الناصري, وكذلك في حزب التجمع. في كل الحالات هناك نوع من المحاسبة الذاتية الضمنية, ولكن المردود مختلف إلي حد كبير. فحزب الوفد الذي يصف نفسه بأنه حزب مؤسسي, بمعني أن اتخاذ القرار يتم من خلال هياكل الحزب القيادية ووفقا للوائح الشرعية, اتجه إلي ثلاثة مخارج لكي ينفض عن نفسه حصيلة الانتخابات; الأول التحقيق حسب اللائحة مع المرشحين الوفديين الذين استمروا في الجولة الثانية ونجحوا وأصبحوا أعضاء في البرلمان, والمطروح علي هؤلاء الوفديين أصلاء كانوا أم منتسبين إما الاستقالة من الحزب وإما الانسحاب من مجلس الشعب تطبيقا لقرار مؤسسات الحزب بالانسحاب التام من مجمل العملية الانتخابية, ردا علي ما شابها من تجاوزات وتزوير وبلطجة وتسويد إلي أخر الأسباب المعلنة. لكن الوفديين الذين فازوا بعضوية البرلمان يرون الأمر بطريقة مختلفة, فهم قد دخلوا الانتخابات وفقا لقرار الهيئات الحزبية نفسها, وفازوا لأن لديهم شعبية في دوائرهم, وهم أيضا حريصون علي صفتهم الوفدية, فكيف إذن يتخلون عن المواطنين الذين انتخبوهم, أو ينفضون عن أنفسهم انتماءهم الوفدي الذي يعتزون به؟ معضلة ليست للنواب فقط وانما أيضا للحزب الذي يبدو مصرا علي ألا يكون له اية صلة بمجلس الشعب الجديد. والمخرج الثاني تشكيل ما يوصف بحكومة ظل يرأسها د. علي السلمي والتي أعلن أن فيها44 وزيرا يضعون خططا شاملة سوف تطرح علي الناس ليعرفوا كيف يخرجون من أزماتهم. وثالثا مخرج قانوني متمثل في بدء تحرك لاسقاط مجلس الشعب المنتخب, عبر رصد أدلة التزوير والبطلان وتحديد المخالفات الدستورية والقانونية. وهذا المخرج تحديدا هو ما تعول عليه قيادة الحزب للوصول إلي قرار قانوني واضح لا لبس فيه بعدم شرعية مجلس الشعب الجديد, وبالتالي يتحقق لها انتصار سياسي وقانوني عظيم. أما الحزب الناصري فقد دخل في دوامة الانقسام الذاتي, وبدأ صراع مكشوف بين نائب رئيس الحزب سامح عاشور وأمين عام الحزب أحمد حسن حول من يحكم قبضته علي الحزب في ضوء الحالة الصحية لرئيس الحزب التاريخي ضياء الدين داود. وفي الصراع يستخدم كل أدواته من مؤتمر طارئ إو إحالة أعضاء للتحقيق أو مخاطبة مجلس الشوري لالغاء الهيئة البرلمانية للحزب الممثلة في الأمين العام. ويبدو أن توازن القوي متكافئ إلي حد ما, واللجوء إلي لجنة شئون الأحزاب قد يكون هو الخلاص, ولكنه خلاص قد يجمد الحزب نفسه خاصة إن رأت لجنة الاحزاب أن هذا الخلاف التنظيمي غير قابل للحل. والواضح ان نتيجة كهذه لن تكون نتيجة سعيدة لا لأعضاء الحزب ولا للذين يؤمنون بالأفكار القومية الناصرية التي يفترض أن الحزب الناصري خير من يعبر عنها. ومن هنا نشطت قنوات التهدئة والبحث عن حلول وسط بين القيادات المتصارعة. وإن حدث ذلك فهو أفضل للجميع, والمهم أن يكون علي أسس واضحة ومؤسسية غير قابلة للتراجع. حزبيا أيضا يبدو أن حزب التجمع أفلح في الخروج من عاصفة ما بعد الانتخابات, ليس فقط لانه نال عددا محدودا من مقاعد البرلمان واصبح لديه هيئة برلمانية تقود المعارضة في مجلس الشعب الجديد, وإنما لأن قيادة الحزب تمكنت من تحويل الخلافات بشأن نتائج الانتخابات إلي شأن يمكن الحوار حوله في قنوات وهيئات الحزب المختلفة, مع التأكيد علي أن وجود الحزب في البرلمان رغم كل الانتقادات التي توجه له هو أفضل السبل المتاحة لتثبيت دور الحزب في الحياة السياسية من جانب وللدفاع عن الدولة المدنية من جانب آخر. ومع ذلك تبدو الأمور بحاجة إلي ترسيخ فضيلة الحوار بدلا من توجيه الاتهامات. هذه النماذج من تحركات الاحزاب ما بعد عاصفة الانتخابات تكشف عن تنوع وعن مسافات مختلفة من الحياة السياسية بوجه عام, ومن مجلس الشعب الجديد بوجه خاص. وهو تنوع يمتد إلي تحركات القوي غير الحزبية, والتي أصابها أيضا فيروس الانقسام الذاتي رغم أن ما حدث يفترض نوعا من المراجعة في الآليات التي اتبعت في السابق ولم تؤد إلي النتائج المرجوة. ويتضح الأمر أكثر في ملاحظة رد فعل الجمعية الوطنية للتغيير وذلك الحوار الذي يدور بين عدد من الناشطين حول الدور المرتقب الذي يمكن أن يلعبه د. محمد البرادعي في المرحلة المقبلة. والحيرة الغالبة علي الجميع هي هل سيقبل د. البرادعي أن يستقر في الداخل وأن يقلل من سفرياته إلي الخارج, والتي يراها مقربون منه السبب الأوحد وراء انفضاض الناس من حوله, بعد أن شعروا منه عدم الجدية في القيام بدور رمز التغيير الذي يطالبون به. وسواء كان د. البرادعي جادا في البقاء أم لا, وجادا في قيادة عملية حشد شعبي كما يدعو أم مجرد داعية للتغيير عن بعد, فالمسألة لدي الاخوان هي السعي إلي تحريك الناس, ولكن دون الاصطدام مع الحكومة والنظام بشكل عنيف. هكذا يقول بعض قادة ورموز الجماعة خاصة الذين خسروا مقاعدهم البرلمانية, ومنهم من رأي البديل في عضوية برلمان موازي ومنهم من يشكك في قيمة مثل هذا الكيان غير الدستوري وغير القانوني, كما وصفه سعد الكتاتني عضو ما يعرف مجلس الارشاد للجماعة. والسؤال المحير هنا بسيط ومعقد في آن, وهو كيف يتحرك الناس وراء ناشطين انزوت شعبيتهم ولم يتمكنوا من الفوز في الانتخابات, مع الاخذ في الاعتبار حدوث تجاوزات في كثير من دوائر هؤلاء. ويبدو تعقيد السؤال حين يتعلق الأمر بما يعرف بالبرلمان الموازي, او البرلمان الشعبي; كيف سيعمل وما هي وظيفته وأين مقره ومن سيختار أعضاءه ومن سيموله, وما هي أهدافه, وكيف ينسق علاقاته مع الأحزاب ومع الناس ومع التيارات السياسية المختلفة؟. يقال هنا أنه يهدف إلي التعبير عن الرأي بشأن ما يجري في مجلس الشعب المنتخب, ومن ثم فهو قانوني, لأن الدستور لا يجرم التعبير عن الرأي بل يحميه. ولكن يظل السؤال هل التعبير عن الرأي بحاجة إلي وسيلة غير محددة المعالم؟ وكذلك يمكن تجريمها قانونيا بسهولة. الأمر برمته لا يخرج عن نوع من الاحتجاج علي نتائج الانتخابات, والاحتجاجات عادة ما تأخذ وقتها, ثم تنتهي وتصبح ذكري تاريخية. هذا القانون التاريخي يعرفه هؤلاء الناشطون جيدا, ومن هنا محاولتهم إلي تأمين مخرج نظامي من خلال استضافة حزب الوفد لهذا البرلمان, والذي رحب به مبدئيا, ولكن ترك الأمر لدراسته في مؤسسات الحزب قبل الانتهاء إلي موقف نهائي. وحتي إذا تحول هذا البرلمان في ظل ضيافة الوفد إلي كيان ملموس, فهل يمكنه أن يقوم بمهام البرلمان الحقيقي من تشريع ومناظرة مع الحكومة ورقابة علي أعمالها. الاجابة الحاسمة هي لا. ومن ثم يظل الامر سواء تحت مسمي برلمان او اي شئ آخر مجرد كيان يدلي فيه ناشطون سياسيون بآرائهم إزاء سياسة هنا أو قانون هناك. و لا أتصور أن هذه الحصيلة بحاجة إلي كل هذه التحركات, التي إن وضعت في إطار اكثر عملية وإيجابية لكانت الحصيلة أفضل كثيرا للمعارضة المستقلة والأحزاب وللحياة السياسية لكل المصريين.