تسمرت عيناي علي خلفية ميكروباص, وقفت سيارتي وراءه بفعل زحام المرور غير المبرر, وقرأت ما كتبه السائق: ملك الأسفلت.. هذه العبارة تعكس التطور العشوائي لهذا المجتمع حين نقارن هذه العبارة بما قام به د. سيد عويس رحمه الله من تجميع وتحليل للعبارات التي كان يكتبها سائقو التاكسيات وعربات النقل: ياناس يا شر بطلوا قر وماتبصليش بعين ردية بص علي اللي اندفع فيه... إلخ. لقد حدث تحول خطير, فهذا سائق الميكروباص كغيره من زملائه يشعر كل واحد منهم أنه ملك الأسفلت, ولم لا, فإنهم يكونون إمبراطورية ضخمة وقوية تفرض سطوتها وبلطجتها علي الشارع المصري ما بين ابتزاز وتحرش وتحطيم سيارات, ومرور علي الكيف, ومخدرات وجرائم أخري عديدة يرتكبها سائقو الميكروباص.. إمبراطورية النقل العشوائي, التي تحتكر وتسيطر علي54% من النقل الجماعي العام. وعندما كان النظام اشتراكيا كانت الدولة هي التي تتبني مسئولية النقل العام وشبكاته, سواء داخل المدن أو بين المحافظات, سواء سككا حديدية أو أوتوبيسات بين المحافظات, أو مترو وترام, والأوتوبيسات داخل المدن, ولكن العبء أصبح كبيرا عليها, والخسائر ضخمة تتحملها ميزانية الدولة, فانسحبت تدريجيا وتركت معظم شبكة النقل لقطاع خاص عشوائي يعمل بالبركة, وليس بقواعد وقوانين, وليست هذه دعوة للعودة إلي النظام الاشتراكي, ولكنها دعوة بالأساس إلي قيام الدولة بدورها ومسئولياتها في ظل النظام الحر, والمعني أن تبدأ بإصدار قوانين لتنظيم النقل الداخلي, وأن تسمح بقيام شركات قطاع خاص بهذا الدور, وأن تكون مؤهلة له, وليس من هواة الدخول في أي بيزنيس يحقق أرباحا هائلة, وأن تقوم الدولة بدورها في وضع معايير هذا النشاط وحدوده, وتراقب الخدمة من حيث جودتها وأسعارها, وأن تضع خططا ومخططات لخطوط سير تلك المواصلات, فلا توجد دولة في العالم ليس فيها مواصلات عامة وإلا ظهرت وبرزت وتفحلت ظاهرة أن يتملك كل فرد سيارة, وأن الشوارع تمتلئ بسيارات تقف فيها ولا تتحرك وتتجمد حركة المرور, وتتحول الشوارع إلي جراجات كبيرة وتتعطل مصالح الناس وأعمالهم, بل وتتأثر صحتهم ونفسياتهم بهذه الأزمة ويصيبهم الإحباط وتقل قدرتهم وكفاءتهم علي العمل. علينا أن نفكر ما هو دور الدولة في ملف أزمة المرور؟ وماهو دور الدولة في توفير المواصلات؟ ولا أن تكون الإجابة هي دفع مزيد من رجال المرور الذين ندعو أن يكون الله في عونهم من جراء ما يتحملونه, ولا يكون دور الدولة دفع بعض الأوتوبيسات الحمراء في الشوارع, ولكن بالأساس هو دور تنظيمي يبدأ من منح رخصة القيادة وترخيص السيارة إلي وضع قواعد للسير تحترم, وهذا ممكن وليس مستحيلا, ولنا عبرة في إشارات المرور المدعمة بكاميرات لمراقبة المخالفين, فالناس احترموها لأنهم يخافون المخالفة وعقوبتها. ولنا أن نتساءل عن هذا الكم الهائل من السيارات في الشوارع, وهذا الكم الهائل الذي يشتريه الناس كل يوم بتسهيلات تصل إلي مجرد تقديم البطاقة الشخصية. وكنا قد طرحنا في أواخر الثمانينيات ما قام به أحد البنوك من فكرة تقسيط السيارة تحت ما يسمي فائدة استهلاكية, وكانت هذه الفكرة إيذانا بحرب المنافسة بين اثنين من كبار البنوك المصرية, وقلت آنذاك محذرا من فكرة الفائدة الاستهلاكية فهي متزايدة, وسوف تقسم وسط المدين للبنك, كما أنه لا يوجد تأمين علي السيارة, فإذا حدث لها لا قدر الله حادثة وتحطمت, فالبنك لا يحصل علي شيء, وكان الناس يشترون السيارة بهذا التقسيط, وعندما يعجزون عن السداد يحطمونها في شجرة أو عامود نور تخلصا من الأقساط وفوائدها, ويضاف إلي ذلك عبئها علي المرور والبيئة, واستهلاك البنزين, وأن السبيل الأهم هو المواصلات العامة, ولقد هاجمني آنذاك من هاجمني وبالطبع لكل رأيه. لقد تفرطحت القاهرة واتسعت رقعتها وأصبح حولها مدن صغيرة أو نتوءات للمدن دون أن تربطها بها مواصلات, وتركت الحركة فيها للعشوائية التي تقودها الميكروباصات, ولأعداد متزايدة من السيارات الملاكي, ولاشك أن قاطني هذه النتوءات يعانون أشد المعاناة في تحركهم وهي في قبضة ملوك الأسفلت ويقفون بالساعات في الدائري والمحور وما شابه حتي تأتي سيارة شاب متهور لا يحمل رخصة قيادة فتحصد أرواحهم. وهكذا اتسعت الرقعة السكانية دون أن يخطط للخدمات بها, ومثلا تترك مدينة مثل6 أكتوبر دون مواصلات عامة محترمة تربطها بالقاهرة والنتيجة تكدس المحور بالسيارات الملاكي وسيارات الميكروباص الطائشة وتعطل الناس ومصالحهم, وضياع الوقت والمال والبنزين وصحة الناس. فهل من الصعب تخصيص مسافة معقولة في وسط المحور مثلا تخصص فقط وبحواجز لمرور سيارات الميكروباص الطائشة فقط؟ هل من الصعب تخصيص عدد أربع سيارات أوتوبيس فقط لا غير اثنتين للذهاب واثنتين للعودة بين ميدان جهينة وميدان لبنان؟ من هو الجرئ الذي يستطيع اتخاذ هذا القرار لمواجهة البلطجة والعشوائية والسطوة. هل يمكن فعلا أن تصدر قوانين لتنظيم دخول القطاع الخاص بشركات في قطاع النقل, سواء النقل العام داخل المدن, أو بين المحافظات؟ أم أن القطاع الخاص لا يحلو في عينه هذا النشاط. ومن الطبيعي أن تتسع وتقوي قبضة ملوك الأسفلت من ملاك وسائقي الميكروباص نتيجة عدم التوسع في شبكة النقل العام, وأيضا يزداد الاعتماد علي السيارات الخاصة بكل مزاياها ومساوئها وتزيد من مليون سيارة عام2001 إلي مليوني سيارة في2010, ويختنق المرور ويزداد العجز في أماكن انتظار السيارات, ولا يجد أصحابها إلا الانتظار بالمخالفة مما يؤثر بالسلب علي حركة المرور, وتنخفض المسافة المقطوعة لأوتوبيس النقل العام بالقاهرة لانخفاض عدد الأوتوبيسات وزحام المرور, والنتيجة تصب في مصلحة الميكروباص الذي تسيد الطريق والركاب فزاد عددها من14 ألفا عام1985 إلي20 ألفا عام2001( حسب دراسات المجالس القومية المتخصصة), وزاد عدد ركاب الرحلات اليومية من مليون راكب إلي ستة ملايين راكب عام2001 وصلت إلي16 مليون راكب عام2010 يقوم بها48 ألف ميكروباص بالقاهرة الكبري وحدها يوميا. لقد استجابت الحكومة أخيرا لما اقترحته في لجنة تنمية الصعيد( باللجنة الاقتصادية للحزب الوطني) قبل بضع سنوات ويتلخص في إنشاء خط سكة حديد سريع من الإسكندرية إلي أسوان مواز لوادي النيل لما له من مزايا عديدة في النقل وتوسيع دائرة التنمية علي الجانبين, ونأمل في أن تستجيب أيضا وتضع مخططا لتنظيم النقل بالقاهرة, بل ومصر كلها, وهو أمر ليس بالصعب أو المستحيل, فالدراسات موجودة في معهد النقل, ومجلس بحوث النقل بأكاديمية البحث العلمي, والمجالس القومية المتخصصة, ودراسة هيئة التعاون الدولي اليابانية( جايكا عام2000), ومركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء, واللجان المتخصصة بمجلسي الشعب والشوري, فهل نلحق وتقوم الدولة بدورها في تنظيم نقل الناس قبل أن تستفحل الحوادث ويزداد توحش ملوك الأسفلت؟!