في أكتوبر1973 أصبحت شيلي مثالا للدولة الملعونة التي تعبث بها وكالة المخابرات المركزية الأمريكية فأحدثت انقلابا عسكريا دمويا أطاح بحكومة منتخبة ديمقراطيا, وقتل رئيسها المنتخب سيلفادور الليندي وسفك دم الشاعر الكبير بابلونيرودا وصارت موضع غضب شعبها وشعوب العالم, وفي أكتوبر2010. بذلت شيلي كل طاقتها لإنقاذ33 من عمال المناجم البسطاء الفقراء فصارت موضع اعجاب وفخر شعبها ومحل تقدير شعوب العالم. (1) من كان يصدق أن رئيس شيلي الملياردير سباستيان بينيرا سيذهب بنفسه ومعه زوجته إلي منطقة المنجم ويمكث هناك زهاء24 ساعة لكي يكونا في شرف استقبال عمال المنجم البسطاء ؟ بل ودون أن نراهما يحتميان بمظلة في عز الشمس في منطقة صحراوية أشبة ما تكون في جفافها وقسوتها المناخية بالصحراء الإفريقية؟ كيف يذهب بينيرا صاحب الملامح الأوروبية الظاهرة ليستقبل عمالا لأغلبهم ملامح الهنود السكان الاصليين لأمريكا الجنوبية قبل وصول الأوروبيين إلي هذه القارة في القرن ال16؟ وأعجب ما يثير أن الرئيس بينيرا كان يتأخر وزوجته عند استقبال كل عامل لدي خروجه من جوف الأرض, ليعطيه الفرصة الكافية لكي يحتضن زوجته وأولاده ويحتفل بعودته إليهم ويصدق أنه مازال بينهم وعلي قيد الحياة, فإذا فرغ العامل من التعبير عن أشواقه الصادقة لأهله وزوجته اتجه إلي الرئيس فعانقه بصدق دون أن يكون هناك أي تكلف أو نفاق؟ ما الذي يجعل أهل شيلي يتصرفون علي هذا النحو الراقي الذي يحترم آدمية البشر ويعترف بحقهم في الحب والانفعال وإعطاء أولويات ظاهرة للاحباب ثم يأتي بعدهم كل الباقين بمن فيهم الرئيس بينيرا؟ (2) منذ اللحظة التي ثبت فيها أن العمال ال33 علي قيد الحياة صمم الرئيس بينيرا علي ضرورة انقاذهم بأي ثمن ومهما كانت التكاليف, والغالب أنه والدولة كلها أرادت أن تثبت الفارق بينها وبين حكومة الديكتاتور الجنرال أوجستو بينوشيه. فهذا الرجل قاد انقلابا عسكريا بدعم وتخطيط ومشاركة من وكالة المخابرات المركزية الأمريكية بهدف اسقاط الزعيم الاشتراكي سلفادور الليندي الذي فاز في انتخابات الرئاسة ولدي سيطرة الانقلاب علي السلطة بدأ عمليات تصفية دموية لانصار الليندي حتي الليندي نفسه جري اغتياله بالرصاص في القصر الجمهوري, وكذلك كان مصير الشاعر الكبير بابلونيرودا عقابا له علي تأييده للاشتراكيين ولصداقته لالليندي, ومن عجب أنه في يوم17 أكتوبر1973 تمت تصفية وإعدام ما لا يقل عن70 شخصا في ذات منطقة المنجم وتم دفن الضحايا في حفر وبعد سقوط الديكتاتور عام1990 وعودة الانتخابات الحرة إلي البلاد جرت عمليات تحقيق واسعة النطاق في الانتهاكات البشعة لحقوق الإنسان التي ارتكبها نظام بينوشيه, وثبتت مسئوليته عن الكثير من الجرائم وتم تجريده من الحصانة ضد الملاحقة القانونية, ولولا عفو رئاسي عنه قبل وفاته عام2006 بهدف عدم استفزاز الجيش الشيلي لكان قد حوكم. أغلب الظن أن تلك الصورة المقيتة البغيضة لعهد بينوشيه لم تفارق خيال الرئيس بينيرا أبدا طوال وقفته تحت الشمس في ذلك اليوم المجيد من حياة شيلي والأكيد أنه أراد بذلك أن يمحو صورة هذا العهد الدموي, وأن يعلن بداية عهد جديد, مرحلة تحترم حياة الإنسان وتنفق في سبيل انقاذ حياة عمال مناجم بسطاء فقراء الغالي والنفيس ليس هذا فقط بل ايضا أن تقرر أن تفعل هذا علنا علي مرأي العالم أجمع. فكما كانت الدنيا كلها شاهدة علي عار الحكم العسكري وإبادته للمئات من الاحرار الابرياء لمجرد أنهم تجرأوا واختاروا من يريدون فلتكن الدنيا أيضا شاهدة علي مجد الحكم الجديد الذي يحترم حياة الإنسان الفرد الفقير البسيط وللحق فلعل هذا اليوم أن يكون هو أمجد أيام حياة الرئيس سباسنيان بينيرا. (3) الفارق المذهل بين شيلي1973 وشيلي2010 من أين يأتي؟! ثارت كل دول أمريكا الجنوبية المهمة ضد نظم الحكم المستبدة وثارت ايضا ضد حكم الجنرالات الدمويين. حدث هذا في الارجنتين وفي شيلي وقطعت البرازيل خطوات جبارة علي ذات الطويق واستقرت مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان والاحتكام إلي صندوق الانتخابات. وأجرت كل هذه الدول تحقيقات واسعة عن التصفيات الدموية التي ارتكبت في حق الشعوب خلال سنوات الماضي وجرت محاكمة المسئولين عن الجرائم ودخل بعضهم السجون أضف إلي هذا انتشار النمو الاقتصادي وارتفاع مستويات المعيشة وانخفاض مستويات التوتر الاجتماعي ثم ارتفاع مستويات التعليم وانخفاض مستويات الأمية. هل نقول ان شيلي2010 تغسل عارها عما جري لها في عام1973. المزيد من مقالات حازم عبدالرحمن