التعليم في أزمة. وهي أزمة مركبة تنطوي علي أزمات عدة انفجرت إحداها في الأسابيع الأخيرة عندما حاول وزير التربية والتعليم د. أحمد زكي بدر معالجتها, وهي أزمة الكتاب الخارجي.فإحدي سمات أزمة التعليم أن بعض فروعها قابل للانفجار في أي لحظة وبمجرد الاقتراب منها. ومن بينها أزمة الكتاب الخارجي التي ثبت فعلا أنها تحوي في داخلها قنبلة يمكن تفجيرها بسهولة. وقد نزع ناشرو الكتاب الخارجي فتيلها عندما اقترب منها الوزير الذي أبدي جرأة لا سابقة لها في معالجتها. وليس صعبا فهم لماذا كانت أزمة الكتاب الخارجي تحديدا هي التي انفجرت, من بين الأزمات التي اقترب منها الوزير بدر بسياسته الجديدة. فالكتاب الخارجي يجمع في صناعته وتجارته مصالح ضخمة قد لا تكون هي الأكبر في العملية التعليمية, ولكنها بالتأكيد الأكثر قدرة علي الضغط المصحوب بابتزاز والمستند علي قوي مالية هائلة تمثلها بعض دور النشر الرئيسية التي تملك إمكانات واسعة. وفي المجتمع المصري اليوم, ليست هناك قوة أقوي وأكثر تأثيرا من قوة المال. فإذا نجحت قوة المال في تعبئة جمهور واسع لا يعي سواده الأعظم أنهم يجرمون في حق أنفسهم وأبنائهم حين يركضون وراء الكتاب الخارجي وكأنه منزل من السماء, لابد أن تكون الأزمة حادة وأن يبدو المشهد الآن مفزعا في شارع الفجالة حيث' يتضرع' أولياء أمور الطلاب الضحايا طالبين امتصاص المزيد من دمائهم! وبالقرب من هذا المكان, ينتظر كبار ناشري الكتاب الخارجي أصحاب القوة المالية ومتوسطوهم وصغارهم بلوغ الأزمة ذروتها, متطلعين إلي تراجع الوزير عن قراره بشأن تحصيل قيمة حقوق الملكية الفكرية لهذا الكتاب. فقد فاجأهم هذا القرار بعد أن تعودوا, مثلهم مثل معظم المستثمرين, التعامل مع الدولة كما لو أنها بقرة حلوب يستنزفونها حتي آخر قطرة. ولم تكن المفاجأة في أن وزيرا أراد أن يضع حدا لهذه العلاقة غير السوية فقط, بل فيما اعتبروه تقديرا مبالغا فيه لقيمة حقوق الملكية أيضا. وربما يكون التقدير الذي استند عليه القرار الوزاري المتعلق بتحصيل قيمة حقوق الملكية الفكرية عن الكتاب الخارجي مبالغا. غير أن البيانات التي قدمها الناشرون بشأن مبيعاتهم وأرباحهم الصافية السنوية تبدو, في المقابل, أقل بكثير من الحجم المعقول في سوق كبيرة يصل عدد طلاب المدارس فيها هذا العام إلي17 مليونا, ولا يقل عدد المقررات التي يدرسونها في مراحل التعليم قبل الجامعي عن المائة إلا بقليل. فإذا افترضنا أن ثلثي الطلاب فقط يعتمدون علي الكتاب الخارجي, بمتوسط أربعة كتب لكل منهم( علما بأن الكثير من الطلاب يعتمدون عليه في معظم المقررات), فهذا يعني بيع حوالي45 مليون نسخة. وهذا هو الحد الأدني الذي يستحيل أن تقل مبيعات الكتاب الخارجي عنه, بل لابد أن تزيد. ولذلك ينبغي السعي إلي توافق علي كيفية حساب حجم مبيعات الكتاب الخارجي ليكون أساسا لحل وسط بشأن تقدير قيمة حقوق الملكية الفكرية التي تعتبر حقا للدولة وبالتالي للمجتمع. وينبغي أن يمتنع, هنا, الخلط بين الدولة والحكومة. فليختلف مع الحكومة القائمة الآن من يشاء. ولكن هذا الخلاف مع حكومة لن تستمر إلي الأبد لا يصح أن يكون علي حساب حق الدولة التي ستبقي هي دولة المصريين جميعهم جيلا وراء جيل. وعندئذ, يمكن أن يبدأ البحث عن حل وسط بخطوتين متزامنتين: الأولي من جانب الناشرين عبر سحب الدعوي المرفوعة أمام مجلس الدولة وإبداء الاستعداد لسداد مقابل حقوق الملكية الفكرية وفقا لتقدير معقول لحجم المبيعات, وبالتالي وقف الاسطوانة المشروخة التي يرددها بعضهم, وهو أن وزارة التعليم لا تملك هذه الحقوق أصلا. وليعلموا أن ادعاءهم عدم ملكية الوزارة معظم مقررات التعليم المستندة علي نظريات متاحة للكافة يمكن أن يكون معول هدم لصناعة النشر كلها. فهذا الادعاء لا يجيز لأي ناشر حقوقا في أي كتاب ينشره, ربما باستثناء الإبداع الأدبي. ويعني ذلك أن الجهد الذي تبذله القيادة الجديدة لاتحاد الناشرين المصريين لحماية حقوق الملكية الفكرية لا لزوم له ولا معني. أما الخطوة الأخري فهي أن يقبل وزير التعليم الاحتكام إلي لجنة خبراء محايدة لتحديد حجم مبيعات الكتاب الخارجي, وأن يبدي مرونة في حساب قيمة حقوق الملكية المستحقة للدولة, بما في ذلك مناقشة الاقتراح المتعلق بأن تكون هذه القيمة في صورة نسبة من إجمالي المبيعات. وفي هذه الحالة, لابد أن يكون الناشرون مستعدين لزيادة النسبة التي اقترحوها من قبل, وهي2.5 في المائة لأنها لا يمكن أن تكون عادلة بأي مقياس. وفي كل الأحوال, ينبغي أن تكون هذه مناسبة لإجراء حوار عام جدي حول مستقبل الكتاب الخارجي, في ضوء الاتجاه إلي تطوير الكتاب الرسمي( كتاب الوزارة) عبر مسابقات يتنافس فيها الناشرون لتأليفه, وتختار الوزارة الكتاب الأفضل في تقديم المنهج الذي تضعه. والسؤال الذي ينبغي أن يجيب عنه الناشرون باستقامة هو: هل يصح أن يؤلف ناشر الكتاب الرسمي ثم يصدر كتابا خارجيا في المنهج نفسه؟ وألا يؤدي ذلك إلي عدم استخدام طاقته كاملة في تأليف الكتاب الرسمي لكي يدخر بعضها, وربما أقواها, للكتاب الخارجي؟ وهل يكون ناشرا أمينا يحترم نفسه وعمله من يفعل ذلك؟! وإذا امتنع الناشر الذي سيختار كتابه ليكون هو الكتاب المدرسي عن مثل هذا العمل غير اللائق, فهل يكون من حق الناشر الذي فشل كتابه في المسابقة أن يصدره كتابا خارجيا وهو أقل مستوي_ في هذه الحالة_ من الكتاب الرسمي مستغلا هوس الجمهور غير الواعي بالكتاب الخارجي؟! وهل يكفي تحصيل قيمة حقوق الملكية الفكرية ثمنا لسكوت وزارة التعليم علي مثل هذه المهزلة التي يصح أن تكون إحدي المهازل الأكثر هزلا في عالم اليوم؟ فالوضع الطبيعي هو أن يؤدي التطوير الذي بدأ في عملية تأليف الكتاب المدرسي الرسمي إلي إلغاء الكتاب الخارجي تدريجيا. ولكن هذا مشروط بشرطين: الأول أن يكون التطوير جديا واختيار الكتاب الفائز في المسابقة علي أسس جد موضوعية, بما يقتضيه ذلك من رقابة صارمة علي هذا الاختيار لدرء ما يحدث من فساد. والثاني أن يكون الناشر الذي فاز كتابه واعتمد هو مالك حقوقه, وليست وزارة التعليم, علي أن يلتزم بعدم بيع هذه الحقوق لغيره طول مدة تدريس الكتاب, والتي لا ينبغي أن تزيد علي خمس سنوات علي الأكثر. وعندئذ سيكون ناشر الكتاب المدرسي هو أول من يتصدي لكتاب خارجي يصدره غيره, الذي سيكون حسابه عسيرا إذا سرق حقوق زميله لأنها ستكون سرقة في وضح النهار.