أزمة تشكيل الحكومة العراقية دخلت شهرها السادس وسط أجواء مشحونة لم تصل إلى حل رغم المشاورات بين مختلف الكتل . تلك الأزمة خلفت منذ بدئها عقب انتخابات مارس الماضى أكثر من ألفى قتيل راحوا ضحية أعمال العنف التى تعرض لها العراق خلال الإنشغال بحل مشكلة تشكيل الحكومة وعدم مراعاة الوضع الأمنى الداخلى الهش أصلا . وقد جاء ذلك وسط استعدادات تجريها الولاياتالمتحدةالأمريكية للإنسحاب العسكرى من العراق وترك الأمور بيد العراقيين . الأزمة فى ظاهرها جاءت بعد أن حصل إئتلاف العراقية بقيادة إياد علاوى على 91 مقعدا من مقاعد البرلمان البالغة 325 مقعدا أى ما يعادل 28? وهى نسبة بعيدة عن الأغلبية المطلقة البالغة 163 مقعدا، بينما حصلت قائمة دولة القانون بزعامة المالكى على 89 مقعدا وحصل الإئتلاف الوطنى العراقى ( التيار الصدرى و المجلس الإسلامى الأعلى ) على 70 مقعدا بينما حصل الأكراد على 43 مقعدا . ولاشك أن هذه النتيجة جعلت إئتلاف العراقية يطالب بمنصب رئاسة الوزراء بما أنها الكتلة التى حصلت على أكبر عدد من الأصوات، إلا أن هذه الكتلة لم تحصل على الأغلبية المطلوبة لتشكيل الحكومة، وقد تزامن ذلك مع إعلان قائمة دولة القانون برئاسة المالكى أنها دخلت فى تحالف مع الأئتلاف الوطنى العراقى بحيث أصبح هذا التحالف الجديد يشكل 72 ? من مقاعد البرلمان الأمر الذى يتيح لها تشكيل الحكومة حسب وجهة نظرها وهو الأمر الذى ترفضه القائمة العراقية بشدة . والحقيقة أن القائمة العراقية تستند فى تمسكها بتشكيل الحكومة بالحق الذى كفله الدستور لها بأن الكتلة صاحبة النصيب الأكبر من مقاعد البرلمان هى التى تشرع فى تشكيل الحكومة وهو مايرفضه المالكى . أما قائمة دولة القانون فتستند على رأى آخر يقول أن القائمة التى تنجح فى تشكيل تحالف يتعدى الأغلبية المطلقة سواء قبل العملية الإنتخابية أو بعد ظهور نتائج الإنتخابات يكون لها الحق فى تشكيل الحكومة وتسمية رئيس للوزراء وهو الأمر الذى ترفضه قائمة علاوى بشدة. والمشكلة أن قائمة علاوى لم تتمكن حتى الآن من الدخول فى تحالف مع أى من القوى السياسية التى تمكنت من دخول البرلمان وبالتالى فهى لم تصل للأغلبية المطلقة بينما قائمة دولة القانون تمكنت من تشكيل تحالف من الأحزاب الشيعية ولكنها مختلفة حتى الآن على من يتولى منصب رئيس الوزراء . وهنا يظهر أنه حتى داخل التحالف الوطنى الذى شكله المالكى من قائمة دولة القانون والتحالف الوطنى العراقى هناك من يعارض أن يبقى المالكى رئيسا للوزراء بل يطالبون بترشيح شخصية أخرى هى عادل عبد المهدى فى هذا المنصب وهوبالطبع ما يرفضه المالكى . ووسط هذه الحالة التى تراوح مكانها جاء نائب الرئيس الأمريكى جوزيف بايدن إلى العراق بمبادرة لحل الأزمة حيث طالب من علاوى والمالكى الدخول فى تحالف مشترك وهو الأمر الذى لم يفكر فيه الرجلان على أن يتولى المالكى رئاسة الوزراء مقابل أن يحصل علاوى على أحدى الوزارات الهامة وهو ما رفضه علاوى . كما اقترح بايدن أيضا إمكانية أن يتولى المالكى رئاسة الوزراء لمدة عامين بينما يتولى علاوى رئاسة الوزراء العامين الآخريين وهو ما تم رفضه أيضا بشدة . ولم يقتصر الأمر على ذلك بل تصاعدت الاتهامات لواشنطن بالتدخل فى الشأن العراقى الداخلى . والحقيقة أن النتائج المتقاربة التى أسفرت عنها الانتخابات العراقية الأخيرة تعد نتائج غير مسبوقة فلم يحدث ذلك فى عام 2005 مثلا وهذه النتائج كان من شأنها أن تحدث مزيدا من الحراك السياسى فى الشارع العراقى إلا أن ذلك لم يحدث وبدلا من ذلك كان المواطن العراقى هو الضحية الأولى، فالأوضاع الأمنية غير مطمئنة ويمكن أن تنفجر فى أى وقت مع استمرار عدم الوصول إلى توافق حول شخصية رئيس الوزراء. والمشكلة ليست ناتجة من مجرد أن القوائم العراقية لم تحصل على نتائج بأغلبية مريحة تمكنها من تشكيل الحكومة بارتياح فالأمر أكبر من ذلك بكثير، فقد شعر العراقيين بالحرية فجأة بعد عشرات القرون التى مرت وكان لاخيار لهم فى اختيار قادتهم . فالمتأمل للتاريخ العراقى منذ القدم يرى أن شعب العراق لم يكن يوما له القدرة على اختيار من يحكمونه فمنذ إنشاء دولة العراق فى عام 1921 ومجئ الملكية التى جاءت بفيصل بن الحسين ملكا وما أعقب ذلك من انقلابات عسكرية دموية كانت القيادات تأتى وتذهب ولادخل للشعب العراقى فى اختيارها، وفجأة جاءت الولاياتالمتحدة لتطبق نمطها الغربى على الأراضى العراقية الأمر الذى أحدث ربكة كبيرة فى الأوساط العراقية . فالعقلية العراقية ظلت لقرون تخضع لفكرة الإستئثار بالحكم والتمسك به أما فكرة تداول السلطة فمازالت بعيدة عن عقلية الساسة العراقيين وهذا ما يفرق الديمقراطيات المتقدمة عن نظيرتها فى العالم الثالث . فعلى سبيل المثال ، عندما أسفرت الانتخابات البريطانية الأخيرة عن برلمان معلق ولم يتمكن أى من الأحزاب البريطانية حسم المعركة لصالحه انعقدت المفاوضات وتنازل كل طرف عن بعض مطالبه حتى تحقق الوئام وانتهت الأزمة بسلاسة، فليس فى السياسة عدو دائم ولاصديق دائم ولايمكن أن نظل نتمسك بمطالبنا إلى الأبد دون الوصول إلى نتائج ملموسة وهذا ما يعوز الساسة فى العراق . ولايمكن فى هذا الصدد أن ننسى وجود تدخلات من قوى إقليمية مجاورة للعراق مثل إيران حيث أن لطهران تأثيرا قويا على بعض القوى العراقية الأمر الذى يعقد الموقف ويجعل التوصل إلى حل وسط معضلة كبيرة إذن ما الحل ؟ .. الحل ببساطة يكمن فى ضرورة ان تتخلى أى من الكتل السياسية العراقية عن انتماءاتها الطائفية وتضع أجندة وطنية خالصة بحيث تتحول تلك الكتل ذات الإنتماءات الطائفية إلى أحزاب سياسة هدفها الأول والاخير هو صالح المواطن العراقى وليس مجرد البحث عن نفوذ وهيمنة .