المفاوض الإسرائيلي تختلف بواعثه عن أي مفاوض آخر, فالبواعث النفسية ترجح كفتها لديه, كفة الحسابات السياسية لدي من يتفاوض بحكم ان إسرائيل نفسها في سياساتها وعلاقاتها مع الآخرين, أقرب إلي كونها حالة نفسية, عن أن تكون دولة ضمن مجتمع دولي بالمعني المتعارف عليه. وكانت المطبوعة الأمريكية الفصلية علم النفس السياسي التي تنشر دراسات متعمقة ويصدرها ويشرف عليها نخبة من المتخصصين قد نشرت دراسة تضمنت تشخيصا لما سمته عقلية الحصار المتجذرة في الشخصية الجماعية الإسرائيلية, وقالت ان جانبا مهما من الرأي العام في إسرائيل لايزال ينظر إلي أحداث النزاع العربي الإسرائيلي, من منظور المزاج النفسي العام, وانه لايستوعب التغييرات الجارية من حولهم ودلالاتها. بل إن دراسات إسرائيلية كانت قد قررت انه لايوجد في إسرائيل رأي عام بالمعني العلمي المتعارف عليه, باستثناء المستوطنين( نصف مليون نسمة) الذين يكونون معا رأيا عاما محدد الهدف, أما بقية الإسرائيليين فإن توجهاتهم تجاه المفاوضات, تتأرجح مابين الاعتدال في بعض الأحيان, وبين التطرف والتعصب في معظم الأحيان, بتأثير ومواقف المؤسسة العسكرية التي يتخذونها مرجعيتهم في الأوقات التي تزداد فيها المخاوف الأمنية, وهي المخاوف التي يلعب علي أوتارها السياسيون المحترفون من ذوي التوجهات المتطرفة والمتعصبة. والمفاوض الإسرائيلي حين يجلس علي مائدة المفاوضات, تحكمه قاعدتان: الأولي التشدد في مطالبه وفرض أقصي الشروط, حتي يظهر نفسه وكأنه يقدم تنازلات صعبة يطلب لها المقابل الذي يعوضه عنها هذا إذا كان مستعدا للتوصل إلي اتفاق في الموضوع المطروح للتفاوض. والقاعدة الثانية في حالة ما إذا كان قد بيت النية علي نسف أي فرصة للسلام فإنه يظهر نفسه بأنه يأخذ عملية السلام علي مأخذ الجد, بينما يكون قد جهز لها كل الأسباب التي تقودها إلي الفشل وحتي يلقي تبعتها علي الجانب الآخر. ومن نماذج تطبيقات القاعدة الأولي, ماحدث في مفاوضات واي ريفر في الولاياتالمتحدة عام1998, بين عرفات ونيتانياهو وبمشاركة كلينتون, الذي ترك البيت الأبيض, وصار مقيما إقامة شبه كاملة لمدة أسبوعين تقريبا في مقر المفاوضات وانتهت المفاوضات باتفاق علي تنفيذ بقية مراحل الانسحاب المتفق عليها في اتفاقات أوسلو عامي1993 و1995 وفي اليوم الذي كان الجميع ينتظرون فيه توقيع الاتفاق, فاجأ نيتانياهو مضيفه كلينتون بمطلب أشترط تنفيذه أولا وإلا فلن يوقع الاتفاق, وكان طلبه هو ان تطلق الحكومة الأمريكية سراح الأمريكي جوناثان بولارد, الذي كان قد حكم عليه بالسجن, بتهمة التجسس لحساب إسرائيل, وتسليمها سرا وثائق بالغة السرية علي مدي سنوات من عمله في البحرية الأمريكية, وكان نيتانياهو ينوي ان يصحبه معه علي نفس الطائرة في عودته لإسرائيل. ورفض كلينتون الطلب, ووراء موجات غضب من الأمريكيين, ومنهم قيادات سياسية في الكونجرس معروفون بمناصرتهم إسرائيل, لأن الطلب فيه إهانة للكرامة الأمريكية. أما عن التظاهر بالقبول, ثم تجهيز رسائل عرقلة أي اتفاق للسلام, فهو ماشاهدناه عبر مسارات التفاوض منذ مدريد91, وخطوات تنفيذ اتفاقيتي أوسلو93 و95 في عهد مختلف رؤساء حكومات إسرائيل, الذين لم يكن بينهم خلاف في طريقة إدارة المفاوضات. وراحت السنوات تتوالي دون نتيجة, بالرغم من حالة التفاؤل التي كانت قد ظهرت في منتصف التسعينات وساعد عليها إعلان الرئيس الأمريكي وحكومته, ان المستوطنات غير شرعية وعقبة أمام السلام, وان أمريكا تمارس دورها كوسيط نزيه, يرعي حل مشكلات الوضع النهائي, التي ستصل إلي قيام الدولة الفلسطينية المستقلة إلي جانب إسرائيل بعد مضي خمس سنوات أي في عام2000. ولقد مرت عشر سنوات, لم يتحقق فيها ما كان متوقعا, فالمفاوض الإسرائيلي لاتستعصي عليه الحيل التي تقود المفاوضات إلي الفشل, إما بالتعنت في المطالب, واتخاذ إجراءات علي الأرض مستفزة للفلسطينيين, وإما بانتظار إطلاق قنبلة أو قذيفة تعطي إسرائيل ذريعة للتراجع وبوسائل متعددة ومتنوعة, وعلي سبيل المثال نحن لاننسي ان الفلسطينيين في غزة سبق أن كشفوا عن عملاء لإسرائيل في صفوفهم بل إن الأمن الداخلي الإسرائيلي سبق ان كشف عن أن في الأرض المحتلة نحو15 الف فلسطيني يعملون سرا لحساب إسرائيل, وإذا كان الأمر كذلك, فأي واحد من هؤلاء يمكن أن يؤدي المهمة ويفجر قنبلة توفر للمفاوض الإسرائيلي الحجة التي يريدها. وحتي لانكون قد رسمنا صورة محبطة يغلب عليها التشاؤم, فإن الأمل والتفاؤل رهن الموقف الذي سيختاره الرئيس الأمريكي, فقد عودتنا إسرائيل في الظروف التي تريد فيها التراجع عن تعهداتها, ان تتشدد إلي المدي الذي تتحدي فيه صراحة الرئيس الأمريكي, وحين يقرر الرئيس أن يتمسك بموقفه, فإنها تتراجع في الحال وتنصاع لما يريده الرئيس وهو ماحدث من الرؤساء ايزنهاور1957 وجيرالد فورد1975 وبوش الأب1991.