تتجاوب المتغيرات السابقة مع الأوضاع الإقليمية, علي المستوي السياسي الذي يظهر في التحالفات الجديدة بين إيران وحماس من ناحية, وبينها وحزب الله من ناحية ثانية, وبين حماس والإخوان من ناحية أخيرة. وهو الأمر الذي يؤكد أن كل شيء.عند دعاة الإسلام السياسي, يعود إلي المصالح الدنيوية التي تتأول النصوص الدينية وتلوي أعناقها, تحقيقا لمصالحها السياسية المباشرة, وإلا فكيف يأتي اللقاء بين الشيعة الإمامية الاثني عشرية التي تؤمن بعصمة الإمام والسلفية التي أسقطت مبدأ عدم الثورة علي الإمام, وإن جار, من لائحة المبادئ الأساسية لعقائدها الأصلية؟ إن الأمر, في النهاية, أمر مصالح سياسية, دنيوية نفعية, ترتدي عباءة الدين الذي يتحول إلي غطاء المقاصد الأصلية ووسيلة لتحقيقها, ولا بأس من تحالف مؤقت بين الإخوة الأعداء في هذا الإطار, ما ظلت المنفعة السياسية قائمة, وما ظلت عمليات التحالف تلقي بظلالها الكثيفة علي عملية التثقيف المجتمعي وثقافة المجتمع العامة. ولحسن الحظ, فإن الإبداع الثقافي المستنير والمتحرر, فكرا وأدبا وفنونا مختلفة, يواصل حضوره المقاوم, ولا يكف عن كشف عمليات التفريق الإيديولوجي التي تحدث للوعي الجمعي, وذلك بواسطة الكلمة والريشة والكاميرا والنغمة, وذلك علي نحو يجعل من مفهوم الثقافة الإبداعية نفسها مفهوما مقاوما, لا يكف عن التصدي لكل آليات القمع السياسي والاجتماعي والفكري والديني, وذلك علي نحو تعمد معه الإبداع الثقافي المقاوم بتلهب الرفض لما هو سائد ومواجهته والحق أنه لولا الدور الذي تقوم به فصائل الاستنارة والإبداع المتمرد للمثقفين المصريين الأصلاء, القابضين علي أحلامهم بمستقبل وطنهم كالجمر, والمواصلين حلم رواد الاستنارة والتجديد, والمضيفين إليه في الوقت نفسه, لكانت الثقافة المصرية الإبداعية فقدت بوصلتها, وانحدرت إلي حضيض التخلف والتعصب والتطرف والعنف الذي تسعي إليه قوي قاهرة, يتحالف فيها الاستبداد السياسي وطبائع الاستبداد الديني للقضاء علي حقوق الإنسان العادلة, وقيم المواطنة الملازمة لمبادئ الحرية والعدل الاجتماعي وغيرها من مبادئ الدولة المدنية الحديثة ولذلك يجد المثقف المصري نفسه كالمثقف العربي, واقعا بين سندان الجماعات الدينية من قوي الإسلام السياسي التي انتشرت كالوباء ومطرقة الاستبداد الحكومي الذي يتزايد في علاقة طردية مع ازدياد الأزمات الاقتصادية والعجز عن مواجهة الفساد الذي أخد يسري في شرايين كل مجال. ولا يختلف المثقفون المصريون في ذلك عن أقرانهم من المثقفين العرب, فالهم واحد, والتحديات والأخطار واحدة في الجوهر, وإن اختلفت في المظهر, لكن من المؤكد أن الثقافة الإبداعية المصرية, المقاومة بوجه خاص, يقف وراءها تاريخ طويل وتقاليد راسخة, تدعم روح المقاومة المستنيرة المدافعة عن حضور الدولة المدنية ولذلك تعمل القوي الإظلامية المتحالفة مع الحكومات الاستبدادية علي طمس الذاكرة الوطنية والقومية, كي يصبح الوعي الجمعي فارغا بلا ذاكرة, قابلا لأن يمتلئ بما تمليه عليه أو تزرعه فيه طلائع الاستبداد السياسي ودعاة الدولة الدينية علي السواء ولذلك فإن إحياء الذاكرة الثقافية وإنعاشها مع استرجاع شعارات العدل الاجتماعي وقيم التسامح ومواقفه, فضلا عن معاني المواطنة الموصولة بحقوق الإنسان وحتمية الدفاع عن حضور الدولة المدنية وصيانتها بالدستور السليم والقانون العادل, هي مهام الطليعة المثقفة المضافة إلي مهامها في استعادة الذاكرة الثقافية وإنعاشها, خصوصا في مواجهة الخراب وعمليات التخريب التي أصابت الوعي الثقافي الجمعي في الصميم, فجعلت التحديات هائلة أمام الحالمين من المثقفين العاملين من أجل مستقبل تظلله رايات الحرية والعدل والعقلانية والتسامح التي تزهو بها الدولة المدنية. وتعرف الطليعة من هؤلاء المثقفين, كل في مجاله, مدي الانحدار الذي أصاب الثقافة العامة وتصاعد معدلات التخلف والتراجع في الوعي الجمعي, وما أصابه نتيجة المتغيرات السلبية في علاقات إنتاج الثقافة وأدواتها وهي متغيرات يمكن أن نوجز أهمها أو ما تشير إليه فيما يلي: * دور رأس المال النفطي بثقافته المتزمتة في تحديد المسموح والممنوع في الدراما التليفزيونية, حيث يتم منع حتي تقبيل الأخ لأخته بدعوي التسويق في بلاد يحكمها إسلام النفط. * شيوع إسلام النفط نفسه وهو إسلام سلفي متطرف, يستمد مبادئه من الفقه الحنبلي المتأخر من خلال الكاسيتات الموجودة في مئات التاكسيات, والمحلات التي تزدحم بها الأحياء الشعبية, في موازاة حركة إنتاج واسعة للشرائط السمعية والبصرية الخاصة بالوعاظ المتطرفين الذين لا يعرفون التسامح الإسلامي الأصيل, والذين يسهم شططهم في إحداث فتن طائفية ومن اللافت للانتباه أن الدور المصري الثقافي انقلب في هذا المجال, وتحولت مصر من مصدر لقيم الاستنارة والعقلانية والتقدم إلي مستورد للمنتجات الثقافية الإظلامية التي تدعو إلي نقاب المرأة وقتل حرية العقل في التفكير والابتكار والحض علي التقليد وغير ذلك من رسائل ووسائل هدم الدولة المدنية, والبداية هي إشاعة عمليات تديين يراد بها تزييف الوعي ولا ينفصل عن الفكر الملبس, في أكثر محلات ومصانع الزي الإسلامي للنساء وأنواع النقاب والحجاب, حتي المايوهات الشرعية للنساء. * الفضائيات المخصصة للأصولية الدينية سواء الإسلامية, أو المسيحية وتأثيرها بفتاواها غير المعقولة علي الملايين الأمية من العرب, فضلا عن الترويج للخرافات الدينية الشعبية, ابتداء من ظهور العذراء فوق إحدي الكنائس, أو وجود شجرة مباركة عليها نقوش دينية إسلامية في المعادي, وقس علي ذلك غيره وقد واكب ذلك ظهور تنافس إعلامي بين الدعاة الجدد الذين تحولو إلي مليونيرات, في مدي براعة الاستجابة لمطالب السوق الوعظي. * تحول المسرح المصري في قطاعه الخاص إلي ملاه هزلية, استجابة لمطالب السياح القادمين من دول عربية مكبوتة. * المنافسة الفضائية في أزياء المذيعات والمغنيات, حيث يتحول جسد المرأة إلي سلعة ووسيلة جذب جماهيري, وفي المقابل تقديم مذيعات محجبات, بعضهن ممن أطلقن علي أنفسهن فنانات تائبات. * تعدد مراكز الإعلام والتبشير الديني المذهبي وتزايد قوتها الإنتاجية والتسويقية برأسمال نفطي. * انتقال قوي إنتاج طباعة الكتاب والمجلات من مصر إلي غيرها, ولولا قلة ضئيلة من دور النشر المصرية, أقل من أصابع اليد الواحدة, لفقد الكتاب المصري وزنه وسمعته, شكلا ومضمونا, وتسويقا وتوزيعا. المزيد من مقالات جابر عصفور