في المئوية الميلادية للشاعر الحضرمي المصري علي أحمد باكثير, الذي ولد بإندونيسيا, ونشأ بحضرموت, وما إن بلغ الرابعة والعشرين من عمره حتي وفد إلي مصر مقيما, ليصبح مصري الحياة والموت, مصري التأليف والابداع, والشهرة والذيوع. مؤكدا أن مصر, علي مدي العصور ظلت المهاد الدافيء لنمو الحياة الثقافية العربية ونشاطها, سواء أتم ذلك بالنسبة له عن كثب أي منذ التحاقه بكلية الآداب جامعة فؤاد الأول( القاهرة), ثم اندماجه في الحياة العملية والثقافية بمصر. أم كان عن بعد, أي قبل أن تطأ قدماه مصر, حيث عاش فترة صباه في حضر موت وعيناه علي مصر, يرتبط بها ارتباطا ويعيش فيها بروحه, وجسده باليمن, شأنه في ذلك شأن كثيرين ممن جذبهم المشروع الاستناري الذي كان قد بدأ في مصر. كان ذلك وهو في حضرموت مشدودا إلي الصحوة الفكرية والروحية والثقافية والاجتماعية والأدبية بمصر, حيث ارتبط بفكر واحد من الوافدين إليها, أيضا وهو جمال الدين الأفغاني, وواحد من أبنائا, وهو الإمام الشيخ محمد عبده, وأتباعهما, وما صدر عنهم جميعا, من إبداع مستنير, بل راسل معظمهم. وراسل المجلات المصرية الشهيرة الصادرة آنذاك, وكتب فيها كالرسالة للزيات, والفتح, وأبولو, بل إن مجلته التي كان قد أصدرها باليمن مع رفاقه, طبعها له بمصر محب الدين الخطيب( الذي وفد إلي مصر, أيضا من سوريا) في مطبعة السلفية بالقاهرة, كما رأي, وهو مازال في اليمن, زيارة محمد رشيد رضا سنة1912, وزيارة محب الدين الخطيب سنة1915, وكتب عن أدباء مصر: البارودي, وحافظ, وشوقي, وعزيز أباظة, وغيرهم كما كان يدون مذكراته عن مصر وهو باليمن. حتي كان بلوغه مصر في1934/2/13, ليلتحق بقسم اللغة الانجليزية بجامعة القاهرة, ليكون ذلك الحدث الميلاد الحقيقي لامتزاج الثقافة اليمنية بالثقافة المصرية, وبدء احتضان مصر لهذا الأديب, ليصبح مصري الحياة حتي الممات, مصري التأليف والابداع والنشاط الأدبي,. منطلقا من مدرجات تلك الجامعة العريقة شاعرا, وليتخرج فيها مدرسا, ويعمل بالتدريس بالمنصورة والقاهرة, ثم في وزارة الثقافة, وليسهم في بواكير حركة الشعر الجديد منذ مناقشته أستاذه الانجليزي بجامعة القاهرة, وليبدأ الغيث الابداعي المسرحي لديه, ويتتابع حتي يملأ الساحة آنذاك, وتم ذلك كله فوق ثري مصر: تأليفا وإبداعا, ونشرا, وتمثيلا لمسرحياته علي خشبة المسرح المصري, ولينصهر انصهارا كاملا في بوتقة الثقافة المصرية الدافئة التي مثلت عبر العصور والعقود مهادا ثقافيا حانيا تفسح به مصر صدرها للابداع العربي بمثل ما فتحت صدرها لكل مبدع عربي أراد أن يتخذ من مصر مقاما, ومناخا ثقافيا, ووطنا ثانيا, حتي أصبح مسرح باكثير, وقتذاك, جزءا لا يتجزأ من نهضة المسرح المصري, مثلما كان شعره جزءا لايتجزأ من الشعرالمصري. هكذا كانت مصر, ولا تزال صدرا حانيا للفكر العربي, والثقافة العربية التي تتخذ من تربة مصر التجذر, ثم الايناع, ثم الإثمار, مثلما سبقه كثيرون ممن وفدوا من لبنان, أو من سوريا, أو من غيرهما إلي مصر يتخذونها موطنا لإقامتهم, وإبداعهم في الآداب, والفنون, والفكر, وظلوا من أبنائها حتي وافتهم المنية من أمثال: السوري أحمد أبو خليل القباني الذي وفد إلي مصر ومعه خمسون من أفراد فرقته المسرحية, فأمر الخديو بوضع دار الأوبرا المصرية تحت تصرفه, ووهبه أرضا أقام عليها مسرحه, وأثر في فن الغناء, مثلما أثر في المسرح, وكان له فيه تلاميذ أمثال: الشيخ سيد درويش, وكامل الخلعي, والشيخ سلامة حجازي, وغيرهم, شأنه في ذلك شأن كثيرين غيره ممن اختاروا مصر وطنا, وإبداعا, كاللبناني جورج زيدان الذي اختار مصر وطنا, وإقامة ليسهم في مجال آخر هو الصحافة والتأليف الأدبي والقصصي, ولينشيء مجلة الهلال(1892) التي لا تزال مستمرة حتي الآن, وهو في ذلك, أيضا, مثل كثيرين غيره ممن وفدوا إلي مصر, فاحتضنتهم وأسهموا من ثم في النهضة الصحفية والأدبية والفكرية بها, وصاروا أحد أبنائها, لتؤكد مصر دائما أنها أم للجميع وأنها القلب النابض للثقافة العربية والفكر العربي الخلاق.