في حملته الصحفية علي الاستثناءات التي بدأت بمقال عنوانه ضد القانون بجريدة الأهرام يوم25 مايو الماضي فتح الكاتب الكبير نبيل عمر الباب أمام القراء لمتابعة صورة من صور الاستثناءات الغليظة والمفجعة. , عندما وافق وزير الزراعة علي مجاملة رجب حميدة عضو مجلس الشعب( معارضة), وكتب تأشيرة خرق بها القانون وبها أهدر القسم الذي أقسمه بالحفاظ علي الصالح العام. وإذا كان هذا الوزير قد أقدم علي هذا الاستثناء استجابة لعضو مجلس شعب معارض فكم عدد الاستثناءات التي ارتكبها كل الوزراء لمجاملة نواب الشعب المؤيدين والمعارضين منذ بدأ العصر اليوليوي عام1952 وحتي الآن؟ وقبل الحديث عن الاستثناءات التي اصبحت علامة مميزة للحياة السياسية والبرلمانية منذ عام1952 سنعود بالذاكرة الي ما عرف في تاريخ مصر بقضية الكتاب الأسود والتي بدأت عندما رصد مكرم عبيد السياسي المصري الشهير قضيتي فساد, الأولي إقدام حكومة مصطفي النحاس باشا رئيس الوزراء علي ترقية موظف استثنائيا, والثانية شراء قطعة فراء لا تتجاوز مساحتها مساحة جلد أرنب لزوجته, فاستنكر هذا السقوط في مستنقع الفساد, وكتب كتابا لكشف هاتين الجريمتين, وحمل الكتاب عنوان الكتاب الأسود هذه هي صورة الاستثناءات قبل23 يوليو1952, أي خلال العصر الملكي ووجود المستعمر الانجليزي, وهكذا كانت القوي السياسية تتحرك لمقاومتها, وكان البرلمان بالمرصاد للمناقشة والتصحيح لتطهير الحياة السياسية. وعندما وصل اليوليويون الي قمة السلطة اتهموا هذا العصر وكل رجاله بالفساد وطاردوهم وحاكموهم وصادروا ممتلكاتهم وسجنوهم وعزلوهم اجتماعيا وشهروا بهم إعلاميا. فماذا جري في عصرهم إلي ان وصلنا إلي هذا الاستثناء الفج الذي أقدم عليه وزير الزراعة؟ لقد وصلت المجموعة اليوليوية الي قمة السلطة, وقضت علي النظام الملكي, وطوت صفحة القوي السياسية التي استند عليها, وبدأت في البحث عن قوي تقبل بالتعاون معها. وتضمنت القوي السياسية القديمة الأحزاب والنقابات والاتحادات والجمعيات والمنظمات المدنية ولجأت المجموعة الحاكمة الجديدة الي الغاء الأحزاب ومصادرة أموالها, وقضت علي الملاك الزراعيين وكأن التأميم سلاحا لتدمير رجال الصناعة والتجارة وبالنسبة للنقابات والاتحادات فقد حولتها الي أذرع لتنظيمها السياسي الاتحاد القومي. واعتبرت المجموعة اليوليوية المثقفين والمفكرين وأهل الكلمة والعلماء وأساتذة الجامعات والطبقة الوسطئ من القوي المعادية للحكم العسكري, وقدرت أن كل هؤلاء سيظلون من أنصار الحرية والديمقراطية والفكر الليبرالي, فقررت الاصطدام بهم ومحاصرتهم واستهدفت امتصاص حيويتهم بتفتيتهم وبعثرتهم ومنعهم من تنظيم أي نشاط في إطار أي جماعة أيا كانت الأهداف. وعندما نظر قائد هذه المجموعة حوله, لم يجد سوي العمال والفلاحين كقوي يمكن ان يستند اليها بجانب طوابير الانتهازيين والمنافقين وهم كثر. هذه القوي في معظمها لم تعرف الثراء أو المكانة الاجتماعية ولكنها كانت تعيش أحلام الارتقاء الطبقي والثراء وعندما مدت المجموعة اليوليوية اليد اليها وجدتها فرصة سانحة لتحقيق كل أحلامها, ولم يعترض أهل الحكم بل رحبوا بدفع مثل هذا الثمن. بعدها انفتح الباب الامبراطوري للثراء بعد صدور دستور يعطي للفلاحين والعمال نسبة50% علي الأقل من مقاعد البرلمان في سابقة هي الأولي من نوعها في العالم. وواكب ذلك بدء سياسة تقديم الرشاوي للناس علي شكل سياسات وقوانين وقرارات شعبوية, أي هدفها الفوز بالشعبية ولو علي حساب المصلحة العامة, وكسب الحاضر حتي ولو كان ذلك علي حساب المستقبل. وتضمنت هذه الرشاوي, مجانية التعليم من الحضانة للجامعة, وتخفيض ايجارات المساكن. والمهم هنا ان النظام ورئيسه كسب شعبية طاغية بهذه السياسات. وبما أن المجموعة اليوليوية, وصلت الي قمة السلطة بالتآمر علي النظام الملكي, لذا كانت تتخوف جدا من أن يكرر عسكريون آخرون المحاولة, لذا بدأت في إبعاد اعداد كبيرة من القادة أو الضباط الي الحياة المدنية, ولإغرائهم, منحتهم المناصب الرفيعة والدخول العالية, والكثير من الامتيازات, وتوسعت في اجراءات الأمن. وفي نفس الوقت, فرضت المجموعة الحاكمة, أو فلنقل قائدها, عقدا اجتماعيا, يطلب من أهل المحروسة التخلي عن السياسة مقابل تعليمهم وتوظيفهم واسكانهم وعلاجهم. هكذا وببساطة, قرر أهل الحكم تحويل المواطنين الي رعايا بعد ان ارغموهم علي الابتعاد عن المشاركة في صناعة القرار أو السياسة, وحرموهم من حقهم في ابداء رأيهم في شئون وطنهم, ولم يبق للناس سوي حقهم في ممارسة وظائفهم الحيوية. أي كسب المال لجلب الطعام وتناوله ثم اخراجه فيما بعد ثم النوم تحت سقف للاستيقاظ في اليوم التالي لآداء العمل الذي يتحملون مسئوليته لكي يكسبوا رزقهم الذي يوفر لهم الطعام والكساء. ونقول مرة أخري إن النظام السياسي كان في حاجة الي هذه القوي التي اختارها وهم لاشيء يجمع بينهم, وان كانوا قد أجمعوا علي الفوز بأكبر نصيب من كعكة الوطن. وكان هناك اقتناع بأن أهل الحكم يتعاملون مع هذه الكعكة وكأنهم أصحابها ويحصلون لانفسهم علي مغانم كثيرة, فهناك كميات من الذهب وملايين الجنيهات الاسترلينية, تم تحويلها للخارج تحت مبرر الاستعداد لمواجهة أي عمل مضاد للانقلاب والانقلابيين, كما كانت مجوهرات وتحف وممتلكات وقصور الاسرة الملكية مالا مباحا. والحكاية الاكثر طرافة, كان بطلها نجم المجموعة اليوليوية حيث ذهب لمساومة الملكة فريدة زوجة الملك من أجل الزواج بها مقابل الاحتفاظ باملاكها ومجوهراتها وقصرها الذي بناه لها والدها ونفوذها مع حرية السفر الي الخارج في أي وقت لزيارة بناتها الثلاث اللائي خرجن مع والدهن الملك فاروق, فما كان منها إلا أن طردته بعد أن وبخته, بعدها سلط عليها الزباينة فجردوها من كل شيء حتي ملابسها, ولم تجد الملكة فريدة من ينصفها وهي تواجه كل هذا الظلم والعسف. بعدها حاول هذا النجم مع الأميرة فوزية شقيقة الملك والزوجة السابقة لشاه ايران محمد رضا بهلوي, ونجحت المحاولة, وفي المقابل ساعدها علي الخروج بكل ما تملكه من أموال ومجوهرات. وضحك الرفاق اليوليويون كثيرا علي صلاح الذي ثار علي الملك والملكية, ثم يقع في هوي الأميرة ويخرق كل القوانين ليستثنيها ويساعدها علي تهريب اموالها وممتلكاتها. وكانت هناك طرائف اخري ضحكوا لها, وضحك كثير من الناس معهم. ووفر أهل الحكم كل الأسباب للاستمرار في الاستثناءات, فكل القوانين التي صدرت تقريبا تعطي للمسئول الحق في الاستثناء. وكان منطقيا ان يري كثيرون انهم أصحاب حق في الاستفادة من هذه الاستثناءات. هذه الاستثناءات تعد السبب الرئيسي في تدمير مبدأ تكافؤ الفرص وتعاظم دور الواسطة. واذا كان نبيل عمر قد قاد حملة ضد الاستثناءات, فإن الأمل معقود علي من يستجيب ويبدأ الخطوة الأولي لوقف هذا السرطان. المزيد من مقالات عبده مباشر