كان أول الكتب التي قرأتها باللغة الإنجليزية خارج المقررات الدراسية بعد وصولي لأول مرة للولايات المتحدة في اليوم الأخير من سبتمبر عام1977 كتابا عن الإعلام, وكان تحت عنوان السلطة التي ستكون وفيه تم استعراض تاريخ المؤسسات الإعلامية الكبري مثل النيويورك تايمز, والواشنطن بوست, والشبكات التليفزيونية الشهيرة أيامها: إن بي سيNBC, أيه بي سيABC, وسي بي إسCBS لم تكن سي إن إنCNN قد ولدت بعد, وما كان أحد يعرف معني الكومبيوتر, ومن ثم لم تكن هناك مواقع إلكترونية, ولم تكن هناك جماعات المدونين, وربما لم تكن جماعة جوجل قد ولدت بعد, ولا جماعة الفيس بوك بالطبع, وما تبعها من جماعات. كانت الميديا مطبوعة, ومذاعة, وتليفزيونية; وهذه الأخيرة كان بعضها لا يزال أبيض وأسود فقط, ولكن عصر التليفزيون الملون كان هو الصيحة الجديدة, ومعها البرامج المصورة والتي لا يزال بعضها معنا حتي الآن مثل برنامج ستون دقيقة. وكان جوهر حجة الكتاب الذي نسيت اسم مؤلفه هو أننا إزاء ثورة كبيرة في عالم تكنولوجيا المعلومات والإعلام, وأن هذه سوف تولد نفوذا سياسيا وثقافيا يصل إلي حد السلطة علي المجتمع والدولة ليس بمعني السلطة الرابعة الشائعة في الأدبيات الصحفية والسياسية بمعني المشاركة في عملية الرقابة الشعبية, ولكن بمعني القدرة علي التأثير والتغيير. وبعد الكتاب الأول مرت مياه كثيرة تحت الجسور كما يقال دلالة علي مضي الزمن وانقضاء الأيام, وما كان مؤسسات كبري مثل الرواسي الرواسخ في الحياة الأمريكية بدأت تتغير هي الأخري, ونمت تحديات جعلت التليفزيون أكثر سرعة من أي وقت مضي, أما الوسائل الإلكترونية فقد جعلت الصحافة المطبوعة تحل فيها آلة الطباعة الشخصية محل المطابع. وهكذا الحال من تطورات قلبت الدنيا رأسا علي عقب, وكما يحدث عندما تنقلب الدنيا فإن الأسئلة المطروحة تظل دائما علي حالها, ولكن الأجوبة دائما ما تتغير. وكان السؤال هو هل نجحت الميديا في أن تكون سلطة أخري في المجتمع تمارس عليه التأثير والتغيير أم أنها تتحول إلي أشياء أخري لم أقرأ عنها كتابا بعد؟. وبشكل ما اقتربت من بعض التصورات التي قد تكون غير دقيقة, ولكنها كانت ما انعكس علي الذهن علي أي الأحوال, عندما زرت الولاياتالمتحدة لمرتين متعاقبتين, ولأغراض مختلفة, وبينهما شهر واحد تقريبا. ولفت نظري في الأولي أن حدثا واحدا قد هيمن علي الحياة الأمريكية, وكان وقتها موضوع تسرب النفط من أحد آبار البترول في خليج المكسيك, وكانت التغطية من الكثافة بحيث تكاد تشم رائحة البترول متصاعدة من الشاشة التليفزيونية. الموضوع بالطبع كان متعدد الجوانب علي مستوي الحكومة الفيدرالية الأمريكية, ومستوي شركة البترول البريطانية, ومستوي الحكومات المحلية, والمجتمعات التي تعيش علي الساحل, والبيئة البحرية وما جري لها وفيها. ولكن لم تمض أسابيع قليلة حتي كانت أكبر أزمة ألمت بالولاياتالمتحدة منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر2001- أو هكذا قال الرئيس الأمريكي باراك أوباما- قد تراجعت إلي بضع صور لطيور بائسة يغطيها القار والزيت. انقلب الملف الإعلامي وصار هناك موضوعان آخران يسيطران علي الساحة الإعلامية, تدق له الأجراس, وتحسب له التوقيتات; وقد ظهرت المفاجأة عندما وجدت علي شاشات عريضة أنه باق خمسة أيام علي زواج تشيلسي كلينتون ابنة الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون, وزوجته وزيرة الخارجية الأمريكية الحالية هيلاري كلينتون. ومن بعدها كل ما يمكن تخيله من تفاصيل حول حفل الزفاف من أول قائمة المدعوين الذين لم يكن من بينهم الرئيس الأمريكي باراك أوباما, حتي أنواع الزهور, وأشكال الطعام التي سوف تكون في حفل الزفاف. وبسرعة جرت المقارنات السياسية ما بين المدعوة وزوجها- أو من سيكون زوجها- مارك مازفنسكي, وزواج آخر جري في شهر سبتمبر2008 بين ابنة الرئيس الأمريكي جينا بوش وزوجها هنري هاجر وكيف لم يهتم به أحد في ذلك الوقت رغم أن الأب كان لا يزال في البيت الأبيض. هل أصبح زواجا عاديا موضوعا للمقارنة بين الديمقراطيين والجمهوريين؟ من الجائز بالطبع, ولكن القصة تمضي في طريقها وفق إيقاعات متصاعدة يجري فيها استدعاء زيجات شهيرة أخري أبرزها ذلك الزواج الفاشل بين الأميرة ديانا والأمير تشارلز الذي كان حفل زفافه من بين أكثر الحفلات أسطورية في القرن العشرين, ولا تتساءل ساعتها كيف ستختفي قصة تشيلسي بعد ذلك كله, لأنه سوف يحدث لها ما حدث لقصة الزيت ساعة ظهور قصة أخري. وقد ظهرت القصة الأخري بالفعل عندما قام موقع ويكيليكسwikileaks, في25 يوليو2010, بنشر نحو92 ألف وثيقة تخص الحرب الأمريكية في أفغانستان وتشمل الفترة من يناير2004 حتي ديسمبر2009, وهي الفترة التي تغطي الولاية الثانية للرئيس الأمريكي السابق جورج بوش والعام الأول من الولاية الأولي للرئيس الحالي باراك أوباما. ويمثل هذا الحدث, أحد أكبر الاختراقات الأمنية في التاريخ العسكري للولايات المتحدة منذ نشر ما عرف بأوراق واشنطن الشهيرة خلال حرب فيتنام التي كانت أولي الطعنات التي وجهت للرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون. وبإلقاء نظرة علي هذا الموقع يتضح أنه تأسس في السويد عام2006 علي أيدي سويديين وأمريكيين وصينيين واستراليين, ومن الناحية الشكلية يتقارب الموقع في الاسم مع موسوعة ويكيبيديا المعروفة, وتعني الأحرف الأربعة الأولي منه وهي ويكي السرعة بلغة هاواي, أما الأحرف الأربعة الأخيرة وهي ليكز فتشير إلي تسريب معلومات. ويعتقد القائمون علي الموقع أن تسريب بعض الوثائق يمكن أن يخدم قضايا عديدة علي مستوي العالم خصوصا من الناحية الإنسانية. وقد قام هذا الموقع بتوزيع الوثائق التي حصل عليها بشأن الحرب الأمريكية علي أفغانستان علي ثلاث صحف هي: نيويورك تايمز الأمريكية, والجارديان البريطانية, ودير شبيجل الألمانية, لكنه اشترط عدم نشرها إلا يوم25 يوليو.2010 وتقول هذه الوثائق إن الوضع العام للقوات الأمريكية في أفغانستان أسوأ مما تحاول الإدارة الأمريكية تصويره, وإن القوات الأفغانية ما زالت عاجزة عن تحقيق الأمن والاستقرار هناك, وإن ثمة تصاعدا في عدد الضحايا المدنيين. تفاصيل ما جاء في هذه الوثائق بات معروفا الآن بل إنه يمكن الرجوع إليها مباشرة, ولكن الأمر المهم هنا هو أن القصة باتت تنافس قصة الزفاف الشهير, بينما تراجعت قصص الأزمة الاقتصادية وتسرب النفط إلي نهاية الأخبار. وبعد صدمة النشر الأولي جاءت الجولة الإعلامية الثانية المعتادة في الانقسام حولها حيث أحدث نشر هذه الوثائق جدلا واسعا داخل الأوساط الأمريكية التي انقسمت إلي اتجاهين فيما يتعلق بتأثيرات هذا التطور علي مصالح الولاياتالمتحدة: الأول, يري أنها تنتج تداعيات سلبية عديدة: أولها, أنها تعرض حياة الأمريكيين للخطر. وثانيها, أنها يمكن أن تدفع الخصوم إلي تغيير أدائهم العسكري, لاسيما في حالة إطلاعهم علي الظروف التي يسمح فيها باستخدام القوة وتلك التي لا يسمح فيها بذلك. وثالثها, أنها تضع صعوبات عديدة أمام الجهود التي تبذلها إدارة الرئيس باراك أوباما لتحسين صورة الولاياتالمتحدة علي مستوي العالم. وقد تبني هذا الاتجاه كل من البيت الأبيض ووزارة الدفاع الأمريكية( البنتاجون), اللذين حذرا من أن نشر هذه الوثائق يهدد الأمن القومي الأمريكي. أما الاتجاه الثاني, فرأي أن الكشف عن هذه الوثائق يؤكد أن الحاجة باتت ملحة لإجراء تغييرات جديدة علي إستراتيجية الحرب في أفغانستان, واستند في ذلك إلي الضجة التي أحدثتها تصريحات الجنرال الأمريكي ستانلي ماكريستال القائد السابق للقوات الأمريكية في أفغانستان, التي أدلي بها خلال مقابلة مع مجلة رولينج ستون الأمريكية في25 يونيو2010, وسخر فيها من كبار مساعدي الرئيس أوباما, الأمر الذي دفع الأخير إلي إقالته وتعيين الجنرال ديفيد بترايوس قائد القيادة الوسطي الأمريكية مكانه, وقد كشفت هذه التصريحات عن وجود خلافات داخل الإدارة الأمريكية حول أسلوب التعاطي الأمثل مع التطورات في أفغانستان لاسيما بين ماكريستال ونائب الرئيس الأمريكي جوزيف بايدن. الإعلام هنا لم تكن مهمته في الواقع ترشيد الحرب في أفغانستان, أو الدعوة للانسحاب منها, أو تصحيح التاريخ حول واحدة من أكثر أحداث عصرنا تراجيدية, أو حتي التأكيد علي حرية الرأي حتي عند قدس أقداس الأمن القومي الأمريكي, وإنما كان البطل هو الحدث نفسه: كشف الوثائق وتسريبها ومن موقع سويدي متعدد الجنسيات. كل ما جري بعد ذلك لا يزيد علي حكايات وقصص وتعليقات تسير من صدمة مرحلة الكشف, ثم دراما الخلاف والصراع حول تفسير ما تم كشفه, وأخيرا الانزواء لتلبية تفاصيل صغيرة تظهر هنا أو هناك. ولكن الانزواء لا يكون لكي تبقي الساحة فارغة, وما لم تكن هناك قصة جديدة ومثيرة فإن هناك عددا من القصص التي لا تبلي أبدا مثل آخر مخترعات التخلص من زيادات الوزن, وهناك دائما مثل هذه المخترعات جاهزة. هل يمكن القول الآن إن السلطة الإعلامية قد اتسعت وزاد عدد مشاهديها, ولكنها لم تقدم لا للرقابة ولا للتأثير وبالتأكيد أنه رغم إلحاحها علي التغيير فإنها لم يكن لديها لا الوقت ولا الشجاعة لكي تناقش اتجاهات التغيير المتصورة أو الممكنة أو المتروكة للمواطنين للحكم فيها وعليها؟. هل نقول إن ذلك يحدث في أمريكا وحدها أم إنه واحد من قضايا العصر التي تخصنا أيضا؟!