يظن كثير من متابعي' المونديال' في دورته الراهنة( التاسعة عشرة) انه مجرد مسابقة كروية. قد تكون هي المسابقة الأكبر والأرفع شأنا. ولكنها في نظرهم مجرد مسابقة تنتهي بفوز أحد المنتخبات التي تتنافس فيها بكأس العالم في كرة القدم. أما من يلاحظون أن' المونديال' ثقافة أيضا, فأكثرهم يرونها سلبية تحض علي التعصب وكراهية الآخر. وهذا ظلم شديد للمونديال الذي لا يخلو من ثقافة ايجابية ساهمت في تقدم البشرية بما تتضمنه من قيم المساواة والعدالة وتكافؤ الفرص ورفض العنصرية وغيرها. ولكن هذه القيم تغيب في كثير من الأحيان في زحام أحداث المونديال ومبارياته المتلاحقة وما يحدث فيها من مفاجآت وما يعتريها من حماس يقترن بالتنافس الشديد بين المنتخبات المشاركة وما يثيره من تعصب تسبب ذات مرة في نشوب حرب بين السلفادور وهندوراس. ويمكن الإشارة إلي ثلاث قيم كبري يقدمها' المونديال' وتشتد حاجتنا إليها في العلاقات الدولية كما في النظام السياسي بل في نمط الحياة بوجه عام. القيمة الأولي هي تكافؤ الفرص, حيث تتاح فرص متساوية لكل المتنافسين علي نحو لا يتوافر مثله إلا قليلا في معظم مناحي الحياة. فلا فضل لدولة علي أخري إلا بامكانات أبنائها وكفاءتهم وقدرات مدربهم وحسن تنظيم الرياضة فيها. ولذلك وصلت دول صغيرة جدا مثل غانا وباراجوي واورجواي إلي مواقع متقدمة في المونديال الحالي, بينما لم تستطع الولاياتالمتحدة وبريطانيا وفرنسا بلوغ مثل هذا الموقع. ولا يمكن تفضيل لاعب أقل موهبة علي آخر موهوب مهما كان شأنه, فلا مجال للوساطة ولا دور للنفوذ. فالموهبة هي الأساس والكفاءة هي الفيصل وحسن الأداء هو الذي يميز لاعبا علي آخر. والقيمة الثانية هي العدالة,حيث يطبق قانون الكرة علي الجميع. فلا كبير ولا صغير أمام هذا القانون, وليس هناك من يستطيع أن يعطله بسبب قوته أو نفوذه أو ماله. فليس في امكان لاعب قرر الحكم معاقبته بكارت أصفر أو أحمر أن يستخدم نفوذه لإلغاء هذا القار أو تحويل المخطئ والمذنب إلي صاحب حق. فالقانون فوق الجميع, وقواعده عامة مجردة. ويستطيع حكم من مصر أن يطرد قائد المنتخب الأمريكي من الملعب شر طردة إذا ارتكب خطأ يعاقب عليه قانون الكرة بالطرد. أما القيمة الثالثة فهي التفاعل الايجابي بين مختلف الأجناس والأعراق والأديان والطوائف, الأمر الذي يساهم في القضاء علي بقايا العنصرية البغيضة في العالم. فاللاعب الأسود البارع يحظي بشعبية لا يتطلع إلي مثلها لاعب أبيض أقل كفاءة. وكان لافتا للانتباه في مونديال جنوب إفريقيا أن أكثر من نصف لاعبي منتخب ألمانيا ينحدرون من أصول غير ألمانية علي نحو يدحض نظرية' النقاء العرقي' التي تبناها هتلر ذات يوم ليس بعيدا بحسابات التاريخ. ولهذه القيم وغيرها, تبدو ثقافة المونديال التي نغفلها عادة عاملا من عوامل تقدم البشرية وارتقائها. كما تبدو هذه القيم نفسها نموذجا يمكن أن يجعل العالم الذي نعيش فيه أفضل بكثير إذا انتشرت في ربوعه. ولذلك عبر السكرتير العام السابق للأمم المتحدة كوفي أنان عن غيرته من المونديال في كلمة وجهها عشية المونديال السابق الذي استضافته ألمانيا عام2006 فقد عبر في تلك الكلمة عن أمله في أن تقوم العلاقات السياسية الدولية والثقافية السائدة في المجتمع الدولي علي العدل الذي يتوافر في الألعاب الرياضية عموما ويظهر بوضوح في المونديال, حيث توجد قواعد عامة تحكم الجميع ومعيار واحد يطبق عليهم جميعا دون استثناء وبلا تمييز. فما أبعد ثقافة المونديال ذات المعيار الواحد عن الثقافة السائدة في العالم والتي تقوم علي المعايير المزدوجة التي أفسدت الحياة فيه علي كل صعيد.