توالت قوافل اغاثة الفلسطينيين المحاصرين في غزة وشهدنا وشهد العالم بطولة من يخترقون الحصار الاسرائيلي, وشهدنا وشهد العالم مدي وحشية جنود اسرائيل وهم يطلقون النار ويقتلون أولئك المدنيين العزل الذين لاينقلون سلاحا ولاذخيرة, بل طعاما وأدوية ومواد بناء وتجهيزات طبية, لقد احتشد علي ظهر تلك السفن أقوام من جنسيات شتي لايجمع بينهم سوي احساسهم الرفيع بالانسانية والتزامهم بنجدة المظلوم, منهم المسلم والمسيحي واليهودي ومن لادين له بل والملحد أيضا, وليس من شك في أنه من الطبيعي أن ننبهر بتلك المشاهد الانسانية, وأن نشيد بأصحابها. ولكن ذلك كله لاينبغي أن يصرفنا عن حقيقة أن جوهر مايعاني منه الشعب الفلسطيني هو الاحتلال الاسرائيلي يستوي في ذلك ابناء غزة وأبناء القطاع وعرب48 واللاجئون الفلسطينيون, وفلسطينيو الشتات. ومن ثم فينبغي أن نميز تمييزا قاطعا بين انهاء الحصار وانهاء الاحتلال فليس كل محاصر محتلا, وليس كل محتل محاصرا, لقد ظلت مصر والجزائر مثلا تحت الاحتلال العسكري لسنوات طويلة مع بقاء موانيها ومطاراتها وحدودها مفتوحة. كذلك فقد حوصرت ليبيا ونري القرارات تتوالي بحصار ايران وأي من الدولتين لايعاني احتلالا. ولو تصورنا أن الضغوط الدولية والجماهيرية المتصاعدة أجبرت اسرائيل يوما علي فتح كل المعابر مع فلسطينالمحتلة بما فيها مطار غزة وميناءها فان ذلك كله برغم قيمته بالنسبة لحياة الفلسطينيين اليومية, لاعلاقة له بتحرير فلسطين وعودة اللاجئين. ان اغاثة الفلسطينيين مسئولية العالم أو ينبغي أن تكون كذلك, أما تحرير فلسطين فهو مسئولية الشعب الفلسطيني أولا, فهكذا كانت حركات التحرر عبر العالم وعلي امتداد التاريخ, ولايعني ذلك بحال اي اقلال من أهمية مساندة حركات التحرر, ولكن لايتصور بحال أن المساند يمكن أن يحل محل ذلك الشعب. ان تأكيد تلك الحقيقة بات ضروريا مع تصاعد نغمة تتساءل هل باع العرب قضية فلسطين وهنا ينبغي أن نؤكد أن فلسطين ليست قطعة أرض معروضة للبيع, بل إنها شعب له تاريخ نضالي طويل, وإنه لم يكف لحظة منذ قامت دولة اسرائيل عن ممارسة جميع أشكال النضال للتحرر من الاحتلال واقامة دولته المستقلة, وليس من اهانة للشعب الفسلطيني فيما أري أشد ولا أقسي من تصور أن شعوبا أو نظما أخري تتحمل المسئولية الأولي عن تحريره. ليس مفهوما مثلا مطالبة تركيا أو غيرها بأكثر مما تراه هي مناسبا, فاسرائيل لاتحتل أرضا تركية ولاايرانية ولاحتي مصرية, والحديث هنا عن الاحتلال العسكري وليس عن النفوذ أو الاتفاقات العسكرية والمعاهدات الدبلوماسية, ولذلك فالجهد التركي والايراني والمصري والعربي والاسلامي لاتعدو أن تكون جهودا مساندة للشعب الفلسطيني صاحب القضية, صحيح أنه علي جميع القوي الوطنية في العالم أن تتضامن لمساعدة الشعب المحتل علي تحقيق مايريده وأن تضغط الشعوب علي حكوماتها لمزيد من تلك المساندة ولكن ليس مقبولا من أحد اهانة الفلسطينين بزعم أن تحرير بلدهم مسئولية أحد غيرهم. ومادام تحرير فلسطين مسئولية الفلسطينيين في المقام الأول, فان لهم وحدهم اختيار أسلوب المقاومة ونوعها وتوقيتاتها, وعلينا مساعدتهم قدر مانستطيع دون أن نفرض عليهم اختياراتنا نحن حتي لو بدت لنا تلك الاختيارات صحيحة, ليس لأحد منا كائنا من كان أن يفرض علي الفلسطينيين التفاوض, أو يفرض عليهم القتال, وليس لأحد غير فلسطيني أن يخون المتفاوض أو يتهم المقاتل بالتهور. ويواجهنا هنا زعم ظاهره الرحمة وباطنه العذاب, فالبعض يردد أن الفلسطينيين لايقدرون علي مواجهة اسرائيل بآلتها العسكرية الجبارة بمفردهم, وأن مصر هي القوة العسكرية الوحيدة القادرة علي تلك المواجهة, وطالما أنها قيدت نفسها باتفاقية السلام, فعلي فلسطين السلام. وبرغم أن تضخيم أهمية مصر أمر قد يداعب غروري كمصري, ولكنه يجافي الحقيقة: لمصر في الجامعة العربية صوت واحد من22 صوتا, وصحيح أن مصر أكثر الدول العربية سكانا ولكننا لانمثل سوي ربع تعداد العرب أو أقل قليلا, وثروة مصر لاتمثل سوي جانب محدود من الثروة العربية, وينعكس ذلك بطبيعة الحال علي قدرتها علي شراء وتصنيع الأسلحة, ومن ثم فليس مؤكدا أن لديها من السلاح أكثر مما لدي بقية العرب الذين لاينبغي التهوين من مجمل قدراتهم. وفضلا عن ذلك, فان التاريخ يعلمنا أن القوي الاستراتيجية للشعب المحتل تفوق تلك القوي الاستراتيجية لدي المحتلين, ومن هنا كان صدق مقولة أن النصر للشعوب دائما, وتزيد تلك المقولة صدقا في حالة الاحتلال الاستيطاني حيث لا امكانية لتلافي الاشتباك اليومي اقتصاديا, وسكانيا, وليست فلسطين باستثناء في هذا الصدد, الفلسطينيون يزيدون علي عشرة ملايين تقريبا, منهم مليون أو أكثر قليلا في قلب احشاء اسرائيل فعلا, وحوالي ثلاثة ملايين في الضفة والقطاع مشتبكون اقتصاديا وسكانيا باسرائيل, ثمة احتياطي استراتيجي فلسطيني يتمثل في حوالي ستة ملايين فلسطيني بين لاجيء ومغترب. خلاصة القول إن الفلسطينيين هم الأقدر عمليا علي تحرير فلسطين والقول بغير ذلك لايعني سوي اهانة الشعب الفلسطيني واهدار تاريخه النضالي, وتذويب حلمه بدولته المستقلة, حتي لو تخفي ذلك الهدف الصهيوني برداء الانتماء العربي أو الاسلامي للشعب الفلسطيني. [email protected] المزيد من مقالات د. قدري حفني