ربما لم تعرف المكتبة العربية المعاصرة كتابا مثل كتاب' أحاديث مع والدي أدونيس' الذي تضمن حوارا مطولا في صيغة مائة سؤال أجرته الفنانة التشكيلية نينار أسبر مع والدها الشاعر السوري الكبير ونشرته أخيرا دار الساقي في بيروت, لانه من النادر ان نجد كتبا تحتوي علي حوارات حقيقية بمعني وجود وجهتي نظر فيهما الكثير مما يمكن رفضه أو قوله. تلفت النظر في الكتاب مساحة الحرية الكبيرة التي مكنت الطرفين من التعبير عن قناعات لم يكن من اليسير الجهر بها وهي مساحة كشفت شجاعة الاب والابنة في الاقتراب من المسكوت عنه ليس علي الصعيد الاجتماعي فقط وانما ايضا علي الصعيد الفكري أيضا. وساعد علي ذلك ان الكتاب صدر باللغة الفرنسية اولا قبل ان يترجم الي العربية بترجمة رشيقة انجزها حسن عودة., من السطور الاولي نمسك بالخطوط الاولي التي تمكن الابنة من رسم صور أخري للاب الذي لم تعرفه, فهو علي الرغم من قوة حضوره الادبي والاعلامي غائب عن حياتها اليومية طوال الوقت, لديه صور ملتبسة لذلك تقوم باستجوابه بطريقة تمكنها من القبض علي' الجوهري' فيه, والاهم من ذلك انها تسمي كل فصل من فصول كتابها باسم واحدة من الاغنيات المحببة اليها وهي مسميات دالة علي نحو مثير. ولا يغيب عن فطنة القارئ ان الكثير من الاسئلة التي توجهها نينار نتيجة لصور تشكلت في وعيها عن المجتمعات العربية وهي صور استشراقية نمطية وعزاؤها الوحيد ان تلك المعرفة تكونت حيث نشأت في فرنسا, وبحكم هذه النشأة تحديدا يمكن ان نقبل بالكثير من الاراء الجريئة التي قد لا تكون مقبولة في العالم العربي. حتي ان الناشر يري ان الكتاب بحد ذاته درس مزدوج في الحرية يمارسه الطرفان معا بدرجة تصل الي الاستفزاز وهذا صحيح الي حد كبير. لا تستسلم نينار الشابة لقوة حضور الأب العجوز اذ تحضر بقوة لتؤكد فهمها الفطري لبيت شعري كتبه الاب قاصدا نفسه هو: اطرح الاسئلة فأنها قوتك الوحيدة واستنادا إلي تلك القوة تفاجيء نينار والدها بأنها لم تقرأ أعماله, لكنها لا تخفي الاعجاب بصورته, ولا شغفها بتأمل الصور التي يشكلها الناس عنه سيما الاصدقاء المقربين, وتمضي برشاقة من التلصص علي الشخصي الي استطلاع العام وتقول: فيما كنت أبحث عن الانسان وقعت علي الأب الذي لا يكف عن نقد النسيج الاجتماعي العربي العام معتبرا ان العنف تجاه المرأة مستند الي تأويل سياسي ومزيف للدين. في الكتاب كذلك أشياء كثيرة تقارب بين الابنة والاب وتباعد بينهما في نفس الوقت, فهما قريبان في الصور التي تكونت لديهما عن بيروت, فالاب الذي قال مرة' بيروت مدينة بلا مدنية ولا حاضر لها غير تقليد الغرب وأبنيتها' يبدو مثل ابنته التي لا تنظر الي لبنان إلا من عين الخبرة التي كونتها خلال الحرب الاهلية وجعلتها مختبرا لافكار كثيرة لا تخلو من القسوة في الحكم علي المدينة, كذلك يشترك الاب والابنة في الدعوة الي تحرير المرأة العربية لكنهما يختلفان في النظر الي العائلة, فالاب الذي يعد احد ابرز دعاة الحداثة هو ذاته من يناشد الابنة اعادة النظر في علاقتها المنقوصة مع العائلة وهوأيضا من يعترف بالتقصير في حق ابنتيه لانه عند حد معين لم يمارس سلطة ابوية لانه كان يظن ان الام قادرة علي حمل عبء تأهيل الابناء لكنه تبين ان لم يكن صائبا, كذلك يدعو ادونيس في الكتاب الي مقاومة ابتذال الجسد. وبطريقته المعتادة يؤكد ان شعره لم يقرأ ويقول: بعد خمسين عاما من الكتابة يمكننني التأكيد أن شعري مازال بانتظار قراءته ليقرأ علي نحو أفضل مشيرا الي ان خياره بتبني اسم مستعار بدلا من اسمه الحقيقي خيار كان خطوة في المضي تجاه المنفي وعلي الرغم من ذلك لا ينظر الي نفسه مثلما نظر ادوارد سعيد الي حياته في الخارج فهو ليس خارج المكان فهو يقول في كل مكان ذهبت اليه, ابتدعت مكاني الخاص, فالمكان ليس الا فضاء مرتحلا, ووطني هو لغتي والشعر والكتابة كانا نوعا من التعويض عن كل ما له علاقة بالوطن - * سيد محمود حسن [email protected]