نشرت نتائج دراسة حديثة في الولاياتالمتحدةالأمريكية تؤكد ان نسبة مرتفعة ممن أصيبوا بأمراض مزمنة وعلي وجه التحديد السكر والضغط وتصلب الشرايين قد شفوا تماما. بعد خضوعهم لبرنامج علاجي لا يقوم علي تعاطي الأدوية والعقاقير, ولكن علي تعريف المرضي معني الحياة, وكيف يقضونها في سعادة, وذلك عبر إقناعهم بمجموعة من الحقائق وإن شئت سمها التوجيهات تتلخص في: الإنسان يعيش في الدنيا عمرا واحدا, وليس من الحكمة ان يقضيه أو يفنيه تعيسا, إذ لا عمر له آخر يعوض فيه ما فاته في عمرها السابق. اعمل ثم اعمل ثم اعمل, ودع النتيجة والأجر علي الله فلربما يكفيك من الأجر أنك قادر علي العمل, ولست من الكثيرين العاجزين عنه. الرضا بما تملك وإن قل والاستغناء عما لا تملك وإن كثر. لا تطمع في شئ ليس لك ولا تخطيء عمدا تحيا عزيزا. تأملت هذه التوجيهات الجميلة التي تحض علي الأخلاق النبيلة, وعجبت لأن عدد الذين شفوا من أمراضهم بعد معايشتها بلغت خمسة آلاف وسبعة عشر من جملة الذين خضعوا لهذا البرنامج وعددهم ستة آلاف مريض, وفي الوقت نفسه شعرت بالزهو لأن هذه التوجيهات من صميم الاسلام مع أن الذين وضعوها لا يعلمون علي الأرجح شيئا عن الإسلام, ولكن توصلوا إلي أثرها عبر سنوات أمضوها في البحث والرصد والتسجيل والتحليل أما نحن فقد قدمها لنا الإسلام علي طبق من ذهب كما يقال, والمفارقة هنا أن يكتشفها غيرنا ويستفيد منها قبلنا. فنتأمل التوجيه الأول: الإنسان يعيش في الدنيا عمرا واحدا وليس من الحكمة أن يقضيه أو يفنيه تعيسا, فالإسلام لا ينكر علي المسلم أن يستوفي نصيبه من الدنيا, قال تعالي: وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين سورة القصص آية77, ومن معاني النصيب هنا الحظ في الدنيا بالحلال والتمتع بالمباح دون الانجرار إلي الحرام, بل إن بعض المرضي الذين خضعوا للبرنامج رأوا أن في الابتعاد عن الحرام ترويحا عن النفس واستجماعا لنشاطها, والحياة وفق هذا المنهج لا توفر السعادة في الدنيا وحسب بل وفي الآخرة أيضا,وبها يستجيب الله لمن دعاه ربنا أتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار سورة البقرة آية201, ولنلاحظ في آية سورة القصص أن استيفاء الإنسان نصيبه من الدنيا يترتب علي أن يحسن إلي الغير كما أحسن الله إليه, ولا يبغي الفساد في الأرض بمال أو جاه أو أي شئ من زينة الدنيا. ولنأتي مباشرة إلي التوجيه الثاني اعمل ثم اعمل ثم اعمل ودع النتيجة والأجر علي الله, فلربما يكفيك أجرا أنك قادر علي العمل ولست كالكثيرين العاجزين عنه, فهذا النهج يدخل ضمن المعني الواسع للتوكل علي الله, فالإنسان عليه أن يقوم بما هو مطلوب منه خير قيام ويؤدي الدور المنوط به خير أداء ثم يدع الأجر علي الله فمن يتوكل علي الله فهو حسبه, أي كافيه ومؤيده وناصره, وبالقطع من الأفضل للعبد أن يكفيه الله لا عبد مثله من عباد الله, لكن المهم هنا العمل قبل طلب الكفاية من الله حتي لا يقع الواحد منا في فخ الخلط بين التواكل والتوكل علي الله, فالتواكل هو الأمل بلا عمل والبلادة والكسل والجبن عن خوض غمار الحياة, بعكس التوكل علي الله فهو الأمل مع العمل, هو الجد والكد وتفويض الأمر الله والتسليم له دون قلق من عدم الحصول علي الأجر لأنه تعالي أكرم الأكرمين, ومن المهم أيضا لمن يتوكل علي الله التحلي بالصبر, فمن يستعفف يعفه الله ومن يستغن يغنه الله ومن يتصبر يصبره الله, ولقد أصاب الشاعر إذ قال: لا تعجلن فليس الرزق بالعجل الرزق في اللوح مكتوب مع الأجل فلو صبرنا لكان الرزق يطلبنا لكنه خلق الإنسان من عجل. ولو كان حصول الرزق دون السعي من أجله ممكنا لكانت الكائنات الضعيفة في الكون أولي به, لكن برغم ضعفها وقلة حيلتها مقارنة بالإنسان لم يعفها الله من السعي بحثا عن الرزق, فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: لو أنكم تتوكلون علي الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا رواه أحمد والترمذي, والفعل تغدو هنا معناه تذهب وتنطلق وتبكر سعيا وراء الرزق, في حين أن الله تعالي يمكنه أن ينزل لهذا الطيور أرزاقها وهي في أعشاشها, وقد سبق أن نزل مائدة من السماء كما سبق أن رزق مريم في المحراب, ولكنه تعالي أراد لعباده السعي في طلب الرزق, ومن يتخلف عن السعي ليس له حق الأمل في الرزق. التوجيه الثالث: الرضا بما تملك وإن قل والاستغناء عما لا تملك وإن كثر, هو القناعة بعينها, وإذا عاش الإنسان هذا المبدأ سوف يشفي من أمراض اجتماعية كثيرة منتشرة هذه الأيام منها الحسد, الحقد, الغش, الرشوة, الطمع, وغيرها من الامراض الاجتماعية التي تجلب علي اصحابها امراضا عضوية هي نتاج عدم الرضا بما قسم الله, وتحضرني في هذا المقام حكاية رجل من السلف كان اقرع الرأس, ابرص البدن, اعمي العينين, مشلول اليدين والرجلين, وكان يحمد الله قائلا: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلي به كثيرا من خلقه, فسمعه رجل كان يمر به فقال له متعجبا: مم عافاك ياهذا؟ اقرع وابرص واعمي ومشلول اليدين والرجلين فماذا ابقي لك؟ اجاب العبد الصالح: ويحك يارجل, لقد ابقي لي لسانا ذاكرا وقلبا شاكر وبدنا علي البلاء صابرا. ومع التحلي بالصبر بريء العبد الصالح من علله وعاد صحيحا وانطلق باحثا عن الرجل الصحيح الذي حاوره فوجده قد مات, وهكذا يموت الصحيح من غير علة ويعيش السقيم حينا من الدهر. التوجيه الرابع: لاتطمع في شيء ليس لك ولا تخطئ عمدا تحيا عزيزا, وهذا لعمري عين الصواب, فالانسان اذا استبد به الطمع وتمكن منه الجشع قد يقدم تنازلات علي حساب دينه وكرامته وخلقه وربما اسرته, من اجل ان يحصل علي ماطمع فيه, ومع كثرة اللئام هذه الايام قد يقدم كل التنازلات ويهوي بنفسه من مراتب ودرجات الاعزاء العليا الي درجات الاذلين الدنيا, ويقف تارة ذليلا بباب هذا ومنافقا لارضاء ذاك دون الحصول علي ما يريد, والحياة لاتستحق ابدا ان يذل الانسان نفسه من اجلها, لانها ببساطة لاتدوم, وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: جاء جبريل الي النبي صلي الله عليه وسلم فقال: يامحمد عش ما شئت فإنك ميت, واحبب من شئت فإنك مفارقه, واعمل ما شئت فانك مجزي به, واعلم أن شرف المؤمن قيام الليل وعزه واستغناؤه عن الناس.