في عام1943, خاض الولد الشقي مغامرة غريبة من نوعها, فقد سقطت حكومة الوفد وبدأ الاستعداد لانتخابات جديدة, وقرر مصطفي بك ناظر مدرسة المعهد العلمي ترشيح نفسه في دائرة السيدة زينب, حيث يملك ألف تلميذ بألف أسرة بثلاث آلاف ناخب وعلي الفور قام الناظر بتكوين لجنة خماسية تمارس اعمال البلطجة لإرهاب الناخبين وكان الولد الشقي بنحافته وجسده الضئيل أحد اعضاء هذه اللجنة يقول السعدني: لم تكن معركة الانتخابات سهلة, ولم تكن بسيطة.. اكتشفنا بعد فوات الأوان أننا داخل معركة حامية تحتاج الي لجنة من ألف رجل وليس خمسة رجال بينهم العبد لله. وكنت وقتئذ في السادسة عشرة لا أزيد.. وبالرغم من ذلك استطعنا أن ننظم صفوفنا وأن نخوض المعركة بثلاثة آلاف تلميذ لم يكن أحد منهم يعلم شيئا مما يدور حوله.. ولقد كانت مهمتي هي إحداث شغب في المدرسة كل صباح وشد التلامذة في مظاهرة بدون سبب وجرجرتهم الي الشارع.. والحق أقول أنني كنت دائما أجد سببا لكل مظاهرة, باشا عيان, وزير مسافر, مدير عام أحيل إلي المعاش, المهم أنني كنت أجد سببا دائما لكل مظاهرة, وعندما يدق جرس الصباح كنت أفقع بالصوت, يحيا مش عارف مين باشا.. أو يسقط مش عارف مين بك, أو نموت ويحيا أي حد وأي واحد.. ويفرح التلاميذ بالطبع, فالمظاهرة معناها التزويغ ومعناها الفرار من سجن المدرسة الكئيب, ويخرج التلامذة خلفي إلي الشارع.. والذين يتمردون علي المظاهرة يتكفل مدرس الألعاب بهم فيطيح فيهم بعصاه, وعندما تصبح المظاهرة ألسطة ونكون قد وصلنا علي ميدان السيدة زينب.. يختفي اسم الباشا أو البيه الذي خرجت المظاهرة شكليا من أجله, ويرتفع اسم الرجل الحقيقي الذي خرجت المظاهرة فعليا بسببه مصطفي بك.. مصطفي بك.. تنتخبوا مين مصطفي بك.. ابن الدايرة مصطفي بك.. والناس الذين علي الصفين يحيون المظاهرة.. والذين يرفضون واقعة ابوهم سودة, الضرب بالطوب هو أهون شيء والجرجرة من القفا في الشارع هي المصير. وهكذا اصبحت تلميذا في المدرسة لا أدفع مصاريف, تلميذا عمدة يستطيع أن يحرك المدرسة بصرخة, ويشعل النار فيها بقصيدة, وأصبحت أشهر من تمثال لاظوغلي في حي السيدة زنيب. وكان إبراهيم الحريري مدرس الألعاب وأحد أعضاء اللجنة الخماسية رجلا شهما وفتوة الحتة. وكان جريئا ولا أسد جائع, عايقا غاية العياقة.. له شلة في السيدة نصفها فتوات والنصف الآخر تلامذة مضي عليهم حين من الدهر وهم تلامذة, وفي آخر الليل, بعد الهتاف والزعيق كانت الشلة تجتمع في شارع سلامة, وكانت سهراتنا تمتد حتي الفجر.. ثم يدهب كل منا لينام قليلا قبل أن سنتيقظ لنعاود الصراخ من جديد! وذات مساء كانت الشلة قاعدة علي كراسي فوق الرصيف حين مرت من أمامنا مظاهرة صغيرة عدد أفرادها لايتجاوز العشرة, وكانت المظاهرة تهتف بأصوات مسلوخة وابن الدايرة سلامة بك.. هوه لوحده.. سلامة بك, واحتج البعض, وزاطط المظاهرة وكلمة من الشلة.. وإذا بإبراهيم الحريري يقذف نحوها بكرسي قش أطاح بأربعة من المتظاهرين, وانطلق الباقون يسابقون الريح. ولكن إبراهيم لم ترقه نهاية المباراة فنهض يختال كالوزة, وهجم علي الأربعة وهات ياضرب أزلي.. بالأدمغة وبالركب وبالشلاليت, وضرب من كل نوع وعلي كل لون.. وجذبتنا حلاوة المعركة فانطلقنا خلف إبراهيم نضرب معه ونصرخ وكأننا عساكر انجليز مجانين في معركة متوحشة ضد أفراد قبيلة غلبانة في مجاهل افريقيا.. وفجأة.. حدث مالم يكن في الحسبان, طب علينا البوكس وبه عشرة عساكر وضابط معه مسدس حشرونا جميعا في البوكس إلي قسم السيدة زينب. تلك الليلة التي لا أنساها كانت آخر ليالي معركة الانتخابات والذين ضربناهم كانوا أنصار مرشح الحكومة, واكتشفنا امام المأمور أن لكل منا دوسيها أمامه.. ولكل منا تاريخ حافل يحفظه. وبعد سين وجيم ولماضة شدنا العسكري من الأقافي جمع قفا وألقي بنا في سجن القسم. وعلي طول ماعشت في السيدة زينب, وعلي كثرة ما مررت أمام القسم لم أكن أتخيل أن ثمة مكانا مثل هذا علي ظهر الأرض.. حجرة واحدة مستطيلة سبعة أمتار في ثلاثة, بداخلها حجرة أخري, أرضها مثل جدرانها مثل سقفها, ليس لرائحتها مثيل إلا في بيت الأسد في حديقة الحيوان.