عندما تتفاقم الأزمة الاقتصادية الاجتماعية وتصل إلي مستوي الخطر في أي بلد, ينبغي استخدام كل الأدوات المتاحة أو التي يمكن إتاحتها من أجل وضع حد لها وتجنب الشرور المترتبة عليها. وحين يوضع دستور جديد في ظل أزمة من هذا النوع, يفترض أن يكون أحد أهم الأدوات التي تساعد في تحقيق ذلك. كان ممكنا أن نجعل الدستور الجديد قاطرة تحدد الاتجاه الصحيح لمعالجة الأزمة الاقتصادية الاجتماعية وغيرها من المشاكل المتراكمة عبر عقود, وبداية لمرحلة جديدة تتضافر الجهود فيها لإعادة بناء مصر بطريقة تليق بها وتحقق طموحات شعبها. ولكننا أضعنا هذه الفرصة نتيجة الإصرار علي إصدار دستور بدون توافق وطني عام, وبطريقة تكرس الانقسام وتعمقه علي نحو يجعل الاستقرار صعب المنال. ويعني ذلك افتقاد الشرط الأول لمعالجة الأزمة الاقتصادية الاجتماعية, وهو توفير الأجواء الإيجابية المستقرة وبناء الثقة بين مختلف أطراف المجتمع. كما أن محتوي الدستور الذي يفتقد التوافق عليه لا يساعد علي وضع القواعد الأساسية اللازمة للعمل والإنتاج ورفع معدلات النمو ولا يوفر الضمانات اللازمة للحقوق الاجتماعية التي ثبت أن الأداء الاقتصادي يرتبط بها إيجابا أو سلبا. فقد أكدت تجارب معظم البلاد التي نجحت في معالجة أزمات اقتصادية اجتماعية حادة أن وضع حد للتفاوت الاجتماعي يساعد في زيادة النمو الاقتصادي, وأن العكس صحيح. غير أن الدستور جاء خاليا من الضمانات اللازمة لوضع حد للتفاوت الاجتماعي رغم أنه أبقي في المادة14 عبارة( تقريب الفوارق بين الدخول) والتي كانت موجودة في المادة23 من دستور1971 بصياغة أكثر دقة من الناحية اللغوية( تقريب الفروق بين الدخول). وظلت الفلسفة الحاكمة لمسألة الحقوق الاجتماعية والاقتصادية في الدستور الجديد, كما كانت في دستور1971, هي أن النصوص المتعلقة بهذه الحقوق تعتبر نوعا من أنواع التزيين والتجميل وليست ضرورة من ضرورات النهضة والتقدم. ولذلك بقيت النصوص الخاصة بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية إنشائية في مجملها مثل( تعمل خطة التنمية علي إقامة العدالة الاجتماعية والتكافل وضمان عدالة التوزيع.. الخ) بعيدا عن الصياغة الدستورية المنضبطة التي تقترن بإدراك أهمية التحديد الواضح والدقيق لتلك الحقوق وكيفية التزام الدولة بها. وقل مثل ذلك عن نصوص مثل( العمل حق وشرف وواجب لكل مواطن) و(الرعاية الصحية حق لكل مواطن) وغيرها كثير. وفضلا عن الميل إلي التعامل مع هذا النوع من النصوص بطريقة روتينية, أدي ضعف الحس الاجتماعي إلي وضع دستور لا يساعد علي معالجة التفاوت الاجتماعي الهائل. خذ مثلا مسألة الأجور التي تعتبر أحد أهم أسباب هذا التفاوت بعد أن تراكم العبث بها منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي. فلا فرق بين ما يتضمنه دستور2012 بشأن التفاوت في الأجور وما كان منصوصا عليه في دستور.1971 ففي كل منهما كلام عام عن حد أدني للأجور وحد أقصي( حسب صياغة دستور2012) أو حد أعلي( وفق صياغة دستور1971). فلا تحديد لأي معايير تضمن أن يكون الحد الأدني كافيا لسد الحاجات الأساسية, ناهيك عن أن يكفل حياة كريمة. ولا ضمان لأن يظل هذا الحد الأدني محققا للغرض منه في حالة ارتفاع معدلات التضخم. وهذا فضلا عن أنه لا علاقة لما ورد عن الحدين الأدني والأقصي بمعالجة التفاوت الاجتماعي الهائل بسبب فتح الباب واسعا أمام الاستثناء. فقد أضاف دستور2012 إلي ما ورد في دستور1971 نصا يجيز الاستثناء من الحد الأقصي للأجور. وقد كان هذا الاستثناء هو القاعدة في العقود الماضية رغم أن الدستور السابق لم يكن يسمح به, فما بالنا حين يجيز الدستور الذي تم تمريره ذلك صراحة؟ ويرتبط بذلك أن ربط الأجر بالإنتاج( المادة14) سيؤدي إلي مزيد من التوسع في التفاوت الاجتماعي, وسيقود إلي إحباط العاملين بدلا من تشجيعهم علي العمل وإثارة حماسهم للإقبال عليه. فثمة خطأ أساسي بشكل عام ومن حيث المبدأ في ربط الأجر بالإنتاج لسبب بسيط هو أن العامل أو الموظف ليس هو الذي يتحكم في مسألة الإنتاجية, بل الإدارة سواء كانت في شركة عامة أو خاصة. فالعامل والموظف لا يتحملان أكثر من10 في المائة عن المسئولية عن إنتاجيتها. أما النسبة العظمي فهي مسئولية الإدارة التي تتحكم في مستوي تطور أدوات الإنتاج وكفاءة تشغيل الخدمات, فضلا عن أن حجم الإنتاج والخطط المقترنة به هي قرار هذه الإدارة ولا صلة للعامل أو الموظف به. وإذا كان ربط الأجر بالإنتاج خطأ عاما من حيث المبدأ, فهو خطر شديد في فترات الأزمات حين تنخفض معدلات النمو ويزداد الركود لأسباب تعود- فضلا عن المأزق الاقتصادي إلي عدم الاستقرار السياسي وطريقة إدارة شئون البلاد. وفي كل الأحوال, ثبت أن ربط الأجر بالإنتاج وليس بالأسعار يؤدي إلي تفاقم الأزمة الاجتماعية الاقتصادية, ليس فقط لأنه يزيد التفاوت بين أصحاب الدخول الأدني والأعلي ولكن أيضا لما يترتب عليه من تقويض الحافز علي العمل والإنتاج والابتكار. كما أن انخفاض الأجر نتيجة ربطه بالإنتاج, وما يرتبط به من توسع في التفاوت الاجتماعي, يحرم الاقتصاد من أحد العوامل المهمة لتنشيطه, وهو زيادة الطلب علي السلع والخدمات. فعندما يحصل العامل أو الموظف علي أجر أعلي يزداد إنفاقه علي هذه السلع والخدمات لأنها تنقصه هو وأسرته, مما يؤدي إلي مزيد من الإنتاج وتوفير فرص عمل جديدة. وإذا أضفنا إلي ذلك عدم وجود ضمانات لحقوق الفلاحين, خصوصا الحقوق وثيقة الصلة بزيادة الإنتاج الزراعي, يصبح الدستور الجديد بعيدا عن القضية الأكثر إلحاحا بالنسبة إلي مستقبل مصر وهي حل الأزمة الاقتصادية الاجتماعية المتفاقمة. وهكذا يبدو الدستور الجديد بعيدا عن أكبر الأزمات التي يتوقف مستقبل أجيال من أبنائنا علي حلها, وكأنه يصدر في بلد آخر!! المزيد من مقالات د. وحيد عبدالمجيد