ما أعظم الفنان الذي سيخسره العالم بموتي, هذه الجملة من أكثر العبارات إضحاكا لي, لأن شر البلية ما يضحك فعلا.. فهذه الكلمات كانت آخر ما نطق به الحاكم الشهير (نيرون) إمبراطور روما وهو يحتضر. بعد بحور الدماء التي أراقها, وكان من بينها دماء أمه( أجريبينا), وزوجته( أوكتافيا) وأستاذه الفيلسوف الروماني الشهير( سينيكا), فماذا كان سيفعل لو لم يكن فنانا؟! هذا الحاكم الفنان المرهف الحس المولع بالغناء والتمثيل والجمال, لم تشهد الإمبراطورية الرومانية مجازر واغتيالات كما شهدت في عهده, وكانت سمة العصر الدسائس والمكائد للوصول للحكم, وبالتالي تزداد الشكوك والاتهامات ونظريات المؤامرة والوساوس, التي يروح ضحيتها آلاف الأبرياء, ووصلت هذه الدراما ذروتها في عهد عاشق الفن, فلم تنج منها: أمه( أجريبينا) التي دبرت العديد من المؤامرات لتصل به إلي كرسي الحكم, بعد والده بالتبني الإمبراطور( كلوديوس), الذي وقع في حبائلها, بينما وقعت هي في شر أعمالها, بأن سلمت مسئولية حكم إمبراطورية كروما, لمن لا يعي قدر هذه المسئولية, ولا يطيق أعباء الحكم ولا يصبر علي البناء, فكان من السهل علي عقله الضعيف, أن يسرع بحرق روما ليبنيها علي طراز فخم ومبهر, يرضي غروره, علي حساب الضحايا الذين راحوا ضحية حرق عشرة أحياء من أحيائها الأربعة عشر, وأيضا من أتباع الديانة الجديدة في ذلك الوقت, من المسيحيين الذين اتهموا بهذه الجريمة, علي رأسهم( بولس) الرسول والقديس( بطرس)! عاني المسيحيون اضطهادا عظيما في عهد( نيرون) الفنان, ومازالت كنائسهم في السراديب والكهوف التي لجأوا إليها مزارات للسياح, تشهد العذاب الذي خلفه حاكم رأي في نفسه الحكمة المطلقة, التي تري في كل معارض مختلف خارج عن الحكمة والصواب, فحقت عليه اللعنة والعذاب قبل الموت الزؤام, ولا يخفف من هذه القسوة ما يتمتع به هذا الحاكم اللعنة من صفات إنسانية نبيلة ورهافة فنية, تتبخر كلها بسرعة أمام المعارضين لحكمته المطلقة! نجا منه اليهود, الذين كانوا تحت حماية إحدي زوجات( نيرون), بينما لم يستطيعوا النجاة من هتلر صاحب الأفكار المطلقة في القرن العشرين, لم يفتقر( هتلر) للمشاعر الإنسانية المرهفة فقد تمرد علي التعليم الرسمي لحبه للرسم وحاول أن يصبح رساما, ثم تعلق بفن الهندسة المعمارية بعمق, وأيضا ارتبط بوالدته بشدة, وكان عطوفا حنونا علي شقيقته, ولكن هذه الخصال الإنسانية الراقية لا تغير شيئا من تداعيات امتلاك الحقيقة المطلقة, والحكمة الخالصة الكارثية, وهذا الذي حدث في النصف الأول من القرن العشرين, لم يستفد منه بول بوت في النصف الثاني منه, وهو الأخ رقم(1) في الخمير الحمر في الحزب الشيوعي بكمبوديا, الذي أجبر كامل المجتمع علي نوع من الهندسة الاجتماعية, تجبرهم علي العمل في مجتمعات زراعية شاقة, في نظام شيوعي راديكالي, تسبب في موت الملايين في سبيل فرض الحكمة الخالصة للخمير الحمر, الذين اعتذروا في نهاية القرن الماضي عن الإبادة الجماعية, التي تسببوا فيها تحت راية( بول بوت) الذي يحكي أهله وأصدقاؤه الكثير عن أخلاقه الإنسانية الحميدة, وشخصيته المهذبة العطوفة, التي لا تقدم ولا تؤخر بالطبع من مخاطر الحكمة المطلقة المزعومة! الأخلاق الحميدة والعواطف الإنسانية الشخصية ليست شرطا لإنتاج زعيم طيب, يعي قدر المسئولية الملقاة علي عاتقه, لكن الأكثر واقعية أن الأخلاق الطيبة قد تنتج زعيما طيبا, فللزعامة شروط ترتبط بمعارف العصر لا بسذاجة الحكمة المطلقة! الزعماء الطيبون نعمة الشعوب الواعية, التي تعرف كيف تختار قادتها, ليضعوا الأسس القانونية والدستورية, التي تنظم المجتمع مؤسسيا, ليجدد دماءه وخبراته دوريا, فلا يتعلق بتلابيب زعيم طيب, أو ينهار وترخص فيه دماء البشر جراء أوهام أو أطماع زعيم شرير! المزيد من مقالات وفاء محمود