البحث عن تهدئة هو العنوان الأبرز بعد تبادل القصف بين فصائل المقاومة الفلسطينية وجيش الاحتلال الاسرائيلي. وتلك بدورها طبيعة المواجهات العسكرية أو شبه العسكرية بين قوتين ليستا متكافئتين من حيث الامكانات والقدرات. ومع ذلك لا يستطيع الاكثر قوة مادية منهما أن يكسر إرادة الأقل امكانات, والسبب في ذلك عنصر العقيدة والقدرة علي التحمل وهما ما يتفوق فيهما الفلسطينيون في غزة والاراضي الفلسطينية المحتلة. وما نراه في القطاع اليوم في جانب منه مشهد تكرر في مناسبات سابقة, حيث يكون هناك عدوان إسرائيلي يبدأ بالضربات الجوية وعمليات الاغتيال لشخصيات فلسطينية بارزة ثم يتلوها ضربات صاروخية فلسطينية مضادة, الامر الذي يدفع تل ابيب إلي شن هجوم بري يعيث فسادا وقتلا وترويعا, ولكنه ما يلبث أن يخرج الاحتلال من الارض الفلسطينية قائلا انه حقق أهدافه الرئيسية. وفي اثناء هذا العدوان المتدرج تقوم مصر بمحاولات ومساع وضغوط واتصالات عربية ودولية من أجل وقف العدوان, ثم التوصل إلي تهدئة تحافظ علي أرواح الفلسطينيين. المشهد علي هذا النحو, كما حدث في نهاية 2008 ومطلع العام 2009 وكما يجري في اللحظة الجارية يثبت أن استمرار الانقسام الفلسطيني هو العامل الأول وراء التراجع في أهمية القضية الفلسطينية علي الصعيد الدولي, ومن ثم منح إسرائيل قوة اضافية معنوية ومادية تستغلها خير استغلال في مزيد من الاستيطان وإضاعة الوقت بدون الانخراط في عملية تسوية جادة. ويثبت أيضا أن مصر لها دور محوري في تصحيح الخلل القائم بين الفلسطينيين وأنفسهم, وبينهم كجماعة وطنية لها حقوق مشروعة وبين العدو الاسرائيلي. ولكن المهم في هذا الدور المحوري أن يكون قائما علي توازن دقيق بين الأسس التي تحفظ الأمن القومي المصري من جانب, وبين الالتزامات القومية والعروبية تجاه الفلسطينيين ككل من جانب ثاني, ومساندة قضيتهم المشروعة في وطن يتمتع بالاستقلال والقابلية للعيش دون منغصات أو تدخلات إسرائيلية من جانب ثالث. وحتي اللحظة الجارية هناك مساران يبدوان متناقضين شكلا, ولكنهما في الحقيقة متكاملان موضوعا. المسار الاول استمرار التهديدات الاسرائيلية باجتياح غزة بريا وصولا إلي التحقيق الكامل لأهداف عملية عامود السحاب, اما المسار الثاني فهو طلب الهدنة ووضع شروط لها حتي لا تصبح مجرد هدنة مؤقتة كعشرات الهدنات السابقة. وهنا يمكن النظر إلي التهديدات الاسرائيلية باجتياح غزة بريا والاستمرار في قتل رموز حماس من زاويتين; الأولي باعتبارها نوعا من الضغط المعنوي علي الطرف الفلسطيني خاصة حماس لقبول مبدأ التهدئة بالشروط الاسرائيلية, وإلا حدث الاجتياح واستمر القتل. وهذا الامر معروف في علم التفاوض وإدارة الازمات, حيث تكون وظيفة تصعيد اللهجة وزيادة حجم التهديد بمثابة دافع للوصول إلي اتفاق لوقف المواجهة. أما الزاوية الثانية فهي أن التهديدات ليست سوي مقدمة للاجتياح البري للقطاع فعلا, بإعتبار أن أهداف العملية من المنظور الاسرائيلي لم تتحقق بالكامل بعد حسب تصريحات وزير الخارجية ليبرمان, خاصة إستعادة الردع الاسرائيلي والمنع الكامل للصواريخ الفلسطينية التي تهدد مدن الجنوب الاسرائيلي. مصر بدورها معنية بالمسارين معا, فالعدوان يجب وقفه فورا, والثاني أي التوصل إلي التهدئة فيجب متابعته وصولا إلي تفاهم مستقر وقابل للاستمرار. وقد أشار الرئيس مرسي في لقائه مع رئيس وزراء تركيا إلي أن هناك مؤشرات علي قبول هدنة ولكن لا توجد ضمانات. بينما أشارت تقارير إسرائيلية نشرتها هأرتس إلي أن زيارة رئيس الوزراء هشام قنديل إلي غزة كانت جزءا من تحرك مشترك بين القاهرة وواشنطن لوقف إطلاق النار فورا, والتوصل إلي تهدئة تتضمن فتح معبر رفح للبضائع بصورة دائمة, وقيام مصر بدور فاعل في تنمية القطاع بمشاركة الاموال القطرية. وهناك من يضيف إلي طلب مصر من حماس أن تضبط حركة بعض الفصائل الجهادية والتي تستغل الانفاق وتثير مشكلات أمنية لمصر في سيناء. وأيا كانت تفاصيل العرض المصري لحركة حماس خاصة التي في داخل القطاع, فإن نجاح أي هدنة يتطلب التزاما متبادلا وضمانات محددة بدقة وضامنين أقوياء ذوي تأثير سياسي ومعنوي كبير, إضافة إلي شروط أخري من قبيل شمول بنود الهدنة سواء مكتوبة او كتفاهم برعاية الضامنين بعض المطالب التي يطالب بها كل طرف علي حدة. فحماس تريد ضمانات ووقف سياسة الاغتيالات للقادة والرموز الفلسطينية ورفع الحصار وفتح معبر رفح بصورة دائمة وبلا عقبات. أما إسرائيل فتطالب بضمانات عدم الهجوم الصاروخي علي مدنها في الجنوب, وألا يدخل سلاح إلي القطاع, والسيطرة علي الانفاق بين غزةوسيناء. وفي تصوري أن هذه المطالب يمكن التوفيق بينها والخروج بهدنة متوازنة. وسيتوقف الامر علي حجم الدور الذي ستقوم به القاهرة ومدي تجاوب حركة حماس مع مطلب المصالحة الفلسطينية, والذي بدونه يصبح فتح معبر رفح إن تم بصورة دائمة للأفراد والبضائع بمثابة خطوة تكرس الانفصال الفلسطيني بين غزة والضفة, ويفتح الباب علي مصراعيه أمام تطبيق المخطط الجهنمي بتحويل الأردن إلي وطن بديل للفلسطينيين, ودفع غزة إلي الالتحاق بمصر وجعلها تحت الرعاية المصرية. إن فتح معبر رفح للأفراد والبضائع قبل المصالحة سينطوي علي مخاطر عديدة, وفي تصوري المتواضع أن الوقوف الحقيقي لنصرة القضية الفلسطينية لا تكون بالمساعدة علي تحقيق استقلال وهمي لابناء القطاع يكرس الانفصال عن الضفة الغربية, ويغير وجهة الرعاية من دولة الاحتلال بموجب القانون الدولي, إلي دولة أخري وهي مصر. وفي تصوري أيضا أن مصر عليها ان تكون اكثر إصرارا علي تحقيق المصالحة الفلسطينية في مدي زمني وجيز, وأن يكون حق الاشراف علي فتح معبر رفح من جانب غزة هو للسلطة الوطنية وليس لحكومة واقعية لإحدي الفصائل دون غيرها. لقد بات علي القاهرة في زمن الثورة أن تحدد أولوياتها للقضية الفلسطينية ككل, وليس لجزء منها أرضا أو سلطة. المزيد من مقالات د. حسن أبو طالب