يبدو أن محاولات التقارب في وجهات النظر بين القوي المعارضة والقوي الحاكمة ضلت طريقها لا سيما أن بعض الذين قاموا بدور الوساطة السياسية لم يصلوا إلي نتيجة مرضية لأي من الأطراف وظلت كل القوي تتشبث وتتمسك برأيها ومطالبها,وباتت مسألة الوساطة مهمة صعبة علي من يقوم بها في ظل اعتماد كل الأطراف علي قوانين اللعبة الصفرية أي أن مكسب كل طرف يأتي علي حساب خسارة الطرف الآخر وهنا تتوه مصلحة الوطن والاهداف القومية. والسؤال هنا: أين الرموز الوطنية التي يحب أن تتبني التقارب بين أطراف الصراع؟! ولماذا لا نجد الوسطاء السياسيين الذين يلعبون الدور المطلوب من أجل تحقيق مصالح الوطن؟!, ولماذا تفشل بعض المحاولات أيضا؟!. لم يشهد التاريخ علي محاولات غيرت مفاهيم وصوبت وقائع مهمة في تاريخ مصر منذ أيام الملك فاروق وناصر والسادات ومبارك. بداية التاريخ يشهد علي الكثير من الحكايات والمواقف والوساطات التي كان بها رموز من السياسيين وكبار الصحفيين والمفكرين علي مر العصور.... استطاعوا إقناع الحاكم وتغيير دفة القرارات للصالح العام في معظم الأحيان. فرغم أن الوساطات السياسية لم تتوقف منذ ثورة 25 يناير بين القوي السياسية والقوي الحاكمة إلا أنها لم تأت بالثمار المرجوة منها بدليل استمرار المطالب الفئوية والمظاهرات والاحتجاجات. ربما تغيرت مفاهيم المشهد في لغة التفاوض في الفترات الماضية لكن الآمال معلقة علي نجاح هذه الوساطات وخاصة أن هناك بعض الشخصات الآن تقوم بهذه المهمة بين قوي المعارضة وبين الرئيس مرسي للوصول إلي صيغة مناسبة وتوافقية في قضايا عديدة ومهمة في مقدمتها الدستور غير أن هناك محاولات سابقه آخرها قيام الدكتور أحمد كمال أبوالمجد بالوساطة في أزمة النائب العام المستشار عبدالمجيد محمود هو نفسه د. أبو المجد الذي كان مهندس محاولات التفاوض بين الرئيس السادات والحركة الطلابية في أوائل السبعينيات, وغيرها من النماذج التي اجتهد د. ابو المجد في الوصول إلي حلول لها. وهذه المهنة في وجهة نظر د. أبو المجد هي مهمة وطنية إذ يري أن كل حركة وكلمة وموقف يساعد علي التقريب بين فئات المجتمع فرض عين علينا جميعا, واليوم الواحد الذي يضيع منا دون سعي نشيط لتحقيق هذا التوافق سينتج خسارة شهور بل أعوام,. والساحة مليئة بوسطاء الخير ويبقي أن يتعاونونا لتكامل جهودهم, فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية التي تنفرد بعملها بعيدا عن القافلة.... والوساطة تكون سهلة ومنتجة إذا كانت الثقافة السائدة فيها عنصر الايمان بالتعددية, وأن كل وجهة نظر بها جزء من الحقيقة وتحقق نجاحا لكل الأطراف, أما إذا كانت الثقافة السائدة لا تؤمن بالتعددية وشعارها الحقيقي أنا وبعدي الطوفان فهذا يجعل تحقيق التوافق مطلبا بعيد المنال, لأن كل الأطراف كما يري الفقيه الدستوري الدكتور كمال أبو المجد يريدون تحقيق مطالبهم كاملة غير منقوصة, وبالتالي فنحن نحتاج إلي تربية سياسية وإلي إصلاح الفكر السياسي والخطاب السياسي أيضا.. أما مغارة الحكايات والمواقف المتعلقة بالوسطاء السياسيين والذي هو واحد منهم فقد وجدناها في خزانة الكاتب الصحفي والمؤرخ صلاح عيسي الذي لعب دورا كبيرا في أزمة القانون39 لسنة59 الخاص بالصحافة من خلال مشاركته في العديد من جلسات نقابة الصحفيين وصولا لرؤي وسطية مشتركة, يقبلها كل الأطراف, سواء بصيغ وسطية أو اتخاذ المواقف الأدبية المناسبة.. صلاح عيسى وعمار علي حسن ويضرب صلاح عيسي مثلا بأحداث 25 و26 فبراير لسنة 1986 والمعروفة بأحداث الأمن المركزي, ففي هذه الفترة وطبقا لما يقول فقد كان الوضع في مصر متوترا حتي إنه وصف بالتمرد العسكري, وكان واجبا أن يجلس الرئيس مبارك مع رؤساء الأحزاب والقوي الوطنية المختلفة, لذا فقد طلبت من الزميل حسين عبد الرازق أن يتحدث مع خالد محيي الدين في هذا الأمر وقد تحمس بدوره للفكرة وقام بالاتصال برؤساء الأحزاب آنذاك واجتمعوا بمبارك في محاولة لاحتواء الأزمة. فمن المعروف مثلا عن فترة حكم عبد الناصر اعتماده الأساسي علي أجهزته وعلي من يثق فيهم وهم أنفسهم في الأغلب أشخاص موالون له ولنظامه وقد لعب محمد حسنين هيكل دورا إيجابيا ملحوظا كوسيط بين أطراف متعددة, فقد تدخل لحل أزمة المليونير المصري محمد فرغلي باشا والملقب آنذاك بملك القطن, وعندما قامت الثورة, وتم تنفيذ القرارات الاشتراكية عليه ظل بلا عمل إلي أن التقي مصادفة بهيكل وطلب منه أن يقنع الرئيس عبد الناصر بالاستفادة منه, فهو طاقة مهدرة, وبالفعل نجح في إقناع الرئيس وتم تعيينه كمستشار لمؤسسة القطن. وهيكل نفسه كما يسرد صلاح عيسي هو من أعاد العلاقات بين مصر وبريطانيا بعدما انقطعت إبان حرب السويس عام 1956, فقد قام بالعديد من الاتصالات بين الجانبين فيما يسمي بالدبلوماسية غير المعلنة, بما له من علاقات وآفاق واسعة. ويشير صلاح عيسي إلي أن معظم أدوار الوساطة نجدها لصحفيين أكثر من الساسة, ربما لثقة الحكام بهم, ففي عهد الرئيس السادات لعب أحمد بهاء الدين دورا كبيرا كوسيط, فحتي بعد خروجه من جريدة الأهرام وسفره للكويت كان الرئيس يستدعيه لاستشارته في الكثير من الأمور. ويذكر عيسي أيضا كريم ثابت الذي كان يعمل مستشارا للملك فاروق ورئيسا لتحرير إحدي الجرائد وقتها, حيث تدخل للوساطة بين القصر من جهة وحزب الوفد من جهة أخري, فبعد ما تم طرد الوفد من الحكم عام 1944 كانت علاقته بالقصر منقطعة تماما, ونظرا لعلاقته القوية بفؤاد سراج الدين وجد أنه يمكن من خلال التشاور معهم واقناعهم بالوصول لحل وسط وهو الترشح في الانتخابات مقابل عدم المساس بالقصر, وبالفعل جاءت نتيجة الانتخابات بأغلبية وفدية.. أما فترة حكم مبارك وكما يراها الكاتب الصحفي صلاح عيسي, فقد شهدت في بدايتها كيف كان يتشاور مع رؤساء الأحزاب والصحفيين قبل اتخاذ القرارات.. ولكن في سنوات الوسط والنهاية أصبح هو صاحب القرار وحده دون استشارة أحد مما كان له الأثر الأكبر فيما وصل إليه هو وأسرته. ويذكر عيسي أنه في أثناء ثورة 25 يناير قد لعب دور الوسيط بين الثوار والحكومة, ولكن بعد موافقة الطرفين علي المناقشة والحوار حيث أخطأ كلاهما علي حد قوله فقد رفض الراحل عمر سليمان نائب الرئيس ممثل النظام أن يقوم بعمل أي تنازل في الوقت الذي رفضه الثوار أيضا, وهو الأمر الذي قبله كلاهما فيما بعد.. فقد تنازل النظام بل إنهار بأكمله, ولم يحصل الثوار سوي علي عزل مبارك, أما بقية أهداف الثورة فلم تكتمل, ولولا تعنت النظام ورفضه تحقيق طلبات الثوار, لانتقلت السلطة بسهولة.. الأمر نفسه كما يقول صلاح عيسي يحدث في الجمعية التأسيسية فلا أحد يسعي للتشاور, فالجميع يريد فرض وجهة نظره ويصر عليها. ومن الضروري أن يكون الوسيط أمينا ومقبولا من الطرفين حتي تنجح عملية الوساطة, فهناك بعض من نماذج الوساطة التي فشلت نتيجة وجود مشكلات شخصية مع تيار أو شخص ما, أو كنتيجة لعدم الخبرة السياسية ويذكر عن المرحوم محمد التهامي وهو أحد الضباط الأحرار الذي عرف عنه أنه شخص غريب الأطوار وأقرب إلي المتصوفين. فهو كان الوسيط الذي يرسله السادات في أثناء تفكيره لزيارة القدس. كما يلتقي بموشي ديان برعاية ملك المغرب الحسن الثاني, وأخبر التهامي السادات أن ديان صرح له بأنه في حالة زيارة السادات للقدس سوف تنسحب إسرائيل من جميع الأراضي العربية المحتلة, الأمر الذي جعل السادات يطلب من أحمد بهاء الدين إعداد خطاب له بناء علي ذلك, ولكن عندما زار ديان الرئيس في الإسماعيلية وفاتحه السادات في الأمر قال له كل شيء قابل للتفاوض إلا الأرض. ومن مذكرات ديان نجد أن ما قاله التهامي للرئيس لا يتعدي كونه اجتهادا شخصيا. ونجد أيضا شمس بدران وكان وزيرا للحربية في عهد عبدالناصر حين أرسله الرئيس للاتحاد السوفيتي في 31 مايو 1967 لطلب الوقوف بجانب مصر, فذهب وتحدث إلي القائد العام للقوات المسلحة السوفيتية والذي رد عليه بشكل به مجاملة وقال لبدران طمأن الرئيس, فذهب شمس بدران لعبدالناصر وأكد له أن الاتحاد السوفيتي مع مصر قلبا وقالبا, وحدثت النكسة بعدها بأيام في يونيو 1967, ولم يكن لرسالة شمس بدران أي أساس من الصحة!! في السياق ذاته ظهر لاعبون آخرون في المشهد السياسي تبنوا فكرة تقريب وجهات النظر بين القوي السياسية كان منهم الدكتور عمار علي حسن الكاتب الصحفي والباحث السياسي والذي يري أن الأزمة هي حدث أو واقعة تتوافر فيها ثلاثة شروط أولا: إنها تهدد أمرا حيويا أو جوهريا في الدولة, وثانيا: هناك نقص حاد, في المعلومات وثالثا: هناك أيضا ضيق في الوقت الأمر الذي يجعل صانع القرار ومتخذه في حاجة ماسة إلي إعانة أو استشارة, وهنا يمكن إيجاد دور للوسطاء.. وفي ظل حالة الاستقطاب الجاد لاسيما حول الدستور تبدو الساحة المصرية في حاجة إلي وسطاء وحكماء يقدمون حلولا بديلة بوسعها أن تحقق أعلي توافق ممكن, وهذا يتطلب انفتاحا وسعة صدر من قبل الطرف الذي يشعر انه مهيمن ويتطلب أيضا منح الثقة من قبل رئيس الجمهورية حتي يستطيع الوسيط أن تكون لديه صلاحيات واضحة, خاصة في ظل انعدام الثقة بين الأطراف المتنازعة علي الساحة السياسية. ويري د. عمار علي حسن انه علي الرغم من أن الحياة السياسية المصرية تشهد في الأشهر الأخيرة ظهور حاجة ملحة للوساطة والوسطاء بالتالي, إلا أن مؤسسة الرئاسة تبدو حتي هذه اللحظة معتقدة أن بوسعها فعل كل شيء دون سند أو معين, بل يبدو الرئيس نفسه راغبا في أن يلعب دور الوسيط وهذا صعب لأن الأطراف الأخري تنظر إليه باعتباره منحازا إلي فريق بعينه وهو الذي تمثله جماعة الإخوان.