احتفي الأهرام منذ أحد عشر عاما أو يزيد, بالمؤرخ البريطاني الأشهر والمثير للجدل الفكري اريك هوبسباوم, الذي رحل عن عالمنا في أول أكتوبر الحالي 2012 , عن عمر يناهز الخامسة والتسعين ففي عشرين مارس 2010. نشر الأهرام الحلقة الأولي من ثلاث حلقات عن كتابه القرن الجديد, وكان كتابا فريدا ومثيرا للتأمل والتفكر, ولم يكن كتابا بالمعني التقليدي, وإنما كان حوارا فكريا وسياسيا خصبا وخلاقا بين المؤرخ والكاتب الصحفي الإيطالي أنطونيو بوليتو, مراسل صحيفة لاريبا بليكا الإيطالية في لندن. وكان كاتب هذه السطور من قدم الكتاب علي صفحات الأهرام, ويعد الكتاب مدخلا لإمكان التعرف علي عالم اريك هوبسباوم ورؤيته السياسية, ذلك أنه لا يرصد الأحداث ويسجل التطورات فحسب, وإنما يعتبر أن مهمته الأولي هي أن يتذكر ما ينساه الآخرون, علي حد تعبيره. ولعل نقطة البداية التي ينبغي الالتفات إليها هي أن اريك قد وقع منذ شبابه المبكر في هوي الماركسية.. وثورة أكتوبر البلشفية التي اندلعت عام 1917 في روسيا وأطاحت بالنظام القيصري, وبشرت بفردوس أرضي آت (يوتوبيا). رومانسية سياسية جامحة, تعلق بأحلامها الفتي اريك, بينما كان في الرابعة عشرة من عمره, وحدث ذلك عام 1932عندما كان يعيش في ألمانيا, في وقت مضطرب للغاية, فقد كانت الديمقراطية الوليدة, التي بدأت إرهاصاتها عقب الحرب العالمية الأولي تتقوض وتنهار, بينما كان النازيون بزعامة هتلر يعربون في الشوارع, حتي تمكنوا من اقتناص السلطة عام .1933 وفي تلك الفترة العصيبة تشكلت ملامح التوجه الفكري الماركسي لإريك, وظن أن التصدي للنازية يقتضي ذلك, ومن ثم, كان تعاطفه مع ثورة أكتوبر ونظامها الشيوعي مبللا بندي رومانسية حداثة سنه, وارتبط منذ ذلك الحين بالمثل العليا لليوتوبيا, علي نحو ما أوضح في سيرته الذاتية التي نشرها بعنوان أوقات مثيرة. والمثير للدهشة, أن اريك هوبسباوم ظل ملتصقا عاطفيا بمثل هذه اليوتوبيا, علي الرغم أنها كانت تتعثر, وانزلقت انزلاقا خطيرا من علياء المثل العليا إلي مستنقع جبروت الحزب الشيوعي, عندما تولي جوزيف ستالين السلطة, وكان طاغية وغليظ القلب, وارتكب جرائم مروعة, وهي الجرائم التي كشفها الزعيم السوفيتي خروشوف في المؤتمر العشرين للحزب عام .1956 }}} وقد أشاع تهشيم خروشوف لشخصية ستالين عدم ارتياح هوبسباوم, وكان حريا به آنذاك أن يراجع موقفه من استمرار عضويته في الحزب الشيوعي البريطاني, لكنه لم يفعل, غير أنه عندما سحقت القوات السوفيتية ثورة المجر عام 1956, اكتفي بنشر خطاب احتجاج في الصحف, ولم ينسحب من الحزب الشيوعي البريطاني. وكان هذا موقفه عندما طمست القوات السوفيتية ربيع الحرية في براج, عاصمة تشيكوسلوفاكيا عام 1968وذلك علي خلاف كتاب ومثقفين أوربيين يساريين.. مزقوا بطاقات عضويتهم بأحزاب الشيوعية الأوروبية احتجاجا علي القمع السوفيتي للحرية. وبدا تفسير المؤرخ لعدم تمرده علي الحزب غير مقنع, فقد برر موقفه بخشيته الانضمام إلي هؤلاء المثقفين الذين صاروا معارضين للشيوعية وللاتحاد السوفيتي. ويشير في كتابه أوقات مثيرة إلي أنه كان ينتمي إلي الجناح الشيوعي اليميني المتطرف, ولهذا كان يتعرض لانتقادات جادة من جانب اليساريين الديمقراطيين في بريطانيا. وعلي الرغم من ذلك, فقد كانت مكانة هوبسباوم تتوطد كمؤرخ, فقد حلق عاليا في فضاءات أوروبا والعالم منذ الثورة الفرنسية الكبري, حتي انهيار سور برلين في التاسع منذ نوفمبر 1989, وأبدع رباعية تاريخية تناولت بامتياز واقتدار عصر الثورة وعصر الإمبراطورية وعصر رأس المال, وأخيرا عصر التطرفات.. التاريخ القصير للقرن العشرين. وتعليقا علي هذه الرباعية, وتقويما لهوبسباوم كمؤرخ, يقول نيل فيرجسون, أستاذ التاريخ المتألق بجامعة أوكسفور في مقال كتبه ب الديلي تلجراف البريطانية في سبتمبر 2002, إنه من عظماء المؤرخين في جيله, وإن رباعيته تمثل أفضل نقطة بداية لمن يرغب في دراسة التاريخ الحديث. وبرغم هذا الثناء العاطر علي هوبسباوم, فإن فيرجسون أعرب عن دهشته من اتخاذ المؤرخ اللامع موقفا سياسيا خاطئا لمدة خمسين عاما, هي سنوات عضويته بالحزب الشيوعي البريطاني. }}} غير أن هوبسباوم تجاوز حالة الرومانسية التي لازمته منذ أن كان في الرابعة عشرة من عمره, وانسحب عام 1986من الحزب, وكان قبلها قد أفصح عن انتقاداته للستالينة, وإن ظل مخلصا للماركسية كمنهج للتحليل التاريخي. وفي أول أكتوبر 2012, رحل المؤرخ والمفكر الكبير, الذي اثار انتماؤه الأيديولوجي الجدل, وكان قد ظل يهدهد في حنايا قلبه حلم الثورة واليوتوبيا. ولكن الحلم الأسطوري لم يتحقق, بل إنه تبدد عندما تحولت الشيوعية, في ظل الطاغية ستالين, إلي نظام شمولي, وهو النظام الذي انهار بسقوط الاتحاد السوفيتي عام 1991 وتفكك إمبراطوريته. وكان اريك هوبسباوم قد ولد في الإسكندرية بمصر عام 1917 وكان والده بريطانيا وأمه نمساوية, ورحلت الأسرة من الإسكندرية إلي فيينا عندما كان اريك في نحو الثانية من عمره, ثم شاءت الظروف أن ترحل الأسرة إلي ألمانيا, ومات والده وكان تاجرا من فرط العناء والشقاء, ولحقت به الأم, وتولي عمه وعمته رعايته. وعندما أطبق هتلر قبضته النازية علي ألمانيا عام 1933, هاجروا إلي بريطانيا, وتعلم اريك هوبسباوم في مدارسها وجامعاتها, وصار محاضرا بالجامعة, ثم أستاذا مرموقا للتاريخ الحديث. نعم.. كانت أوقاتا مثيرة في زمن شديد الاضطراب. المزيد من أعمدة محمد عيسي الشرقاوي