عاصر أبناء جيلي مرحلة اختفت معالمها عن أعين أبناء الجيل الراهن وحتي الجيل الذي سبقه, وهي مرحلة تغيير أنظمة الحكم بانقلابات عسكرية في عصر كان يتميز بخاصية انعدمت كذلك في عصرنا الراهن وهي مرحلة القطبية الثنائية. ولا أريد أن أستطرد في التفنيد, ولكني سأضرب بعض الأمثلة التوضيحية, التي تصلح للاستشهاد بها, وليس القياس عليها.. فعلي سبيل المثال, عندما حدث الانقلاب العسكري في مصر في يوليو1952, تم تعيين علي باشا ماهر, لإعطاء إشارات للولايات المتحدة بأن النظام الجديد ينوي تقوية علاقاته مع الولاياتالمتحدة وهي ذات الرسالة التي نقلها علي صبري مدير مخابرات سلاح الطيران, إلي الملحق الجوي بالسفارة الأمريكية وعندما التقي الرئيس جمال عبد الناصر مع جون فوستر دالاس في القاهرة عام1955, وطلب منه الأخير اشتراك مصر في حلف ضد الاتحاد السوفيتي, رفض جمال عبدالناصر, استنادا الي انه لا يفكر في خطر يبعد عن مصر خمسة آلاف ميل, ويتناسي الخطر الماثل علي بعد مائة ميل منه ويقصد الاحتلال البريطاني.. وتأتي المفارقة الكبري عندما يربط الرئيس جمال عبد الناصر عجلة مستقبل مصر الاستراتيجي بالاتحاد السوفييتي, بتوقيع صفقة التسليح معه عام1955 ليتعدل الخط السياسي والاستراتيجي لمصر بصورة شاملة, ويفتح الباب أمام الاتحاد السوفيتي لدخول الوطن العربي, ويغير من شكل المنظومة الاقليمية بعد تحول العراق والجزائر واليمن الجنوبي وسوريا ومصر إلي دول ترتبط بالمنظومة الاستراتيجية الشرقية بالذات في التسليح والاقتصاد مفاد ما سبق أن القطبية الثنائية كانت تعطي هامش المناورة لحكام الدول لاختيار المسار المناسب لبلدهم. وعندما تولي الرئيس أنور السادات, كان منحاه مختلفا تماما عن منحي الرئيس جمال عبد الناصر, فهو يري أن هدفه الوطني الأساسي هو رفع الاحتلال الإسرائيلي من الأراضي المصرية, حتي لو أدي ذلك إلي تغيير منظومة مصر الاستراتيجية, والتوجه نحو التعاون الشرق أوسطي الإقليمي بمعني إدخال إسرائيل كطرف في هذه المعادلة وقد عبر عن ذلك بكل جلاء في أول خطاب له في البرلمان في فبراير عام1971, وعرض الانسحاب الإسرائيلي إلي محور العريش/ رأس محمد, وفتح قناة السويس للملاحة, وبدء محادثات هدفها تطبيع العلاقات بين البلدين. علاوة علي ما تقدم فقد تم فتح قنوات اتصال بين مسئولين مصريين وأمريكيين, ثم استتبعها بطرحه مبادرة السلام, وأعقبها بطرد الخبراء السوفيت, تمهيدا لحرب1973, التي هدف من ورائها إلي تحريك الموقف لتحقيق السلام مع إسرائيل وتوقيع اتفاق السلام الذي أقر بالتطبيع الكامل بين مصر وإسرائيل والحديث عن التعاون الإقليمي مع إسرائيل. وبعد هذا العرض المقتضب, الذي قصدت به أن أوضح تأثير السياسة الخارجية في عصر القطبية الثنائية علي مصر كقطب عربي للتدليل علي نوعية موازين الموقف الاستراتيجي الدولي آنذاك.. أود أن أشير في عجالة لمرحلة القطب الأوحد بعد تنحي الاتحاد السوفيتي عن دوره وهيمنته كقطب ثنائي عقب ثورة البيروسترويكا التي ابتدعها الرئيس ميخائيل جورباتشوف, لتتفسخ المنظومة الشيوعية والذي انفردت بعدها الولاياتالمتحدة بحكم العالم, وأبطلت مفعول النظام الدولي, وعاشت في السلم والأمن الدولي عبر محاور خطط لها الأمريكيون لتحقيق الامبراطورية الأمريكية التي قدروا لها أن تستمر لقرن من الزمان, حتي جاء الحادي عشر من سبتمبر في ظل حكم اضعف رئيس جمهورية أمريكي استوطن البيت الأبيض وما اعقبه من دخول الولاياتالمتحدة في حرب الاشباح التي اطلقوا عليها الحرب علي الارهاب, والدخول في مستنقع افغانستان والعراق ثم باكستان, ثم دخولها في حرب بنك ليمان الامريكي, والازمة المالية التي هزت اركان النظام الاقتصادي والمالي الأمريكي والعالمي, ليتوقر في ضمير اي حاكم او مخطط امريكي ان عصر الامبراطورية الامريكية قد ولي, وان البديل هو عصر التعاون الدولي الذي يمكن للولايات المتحدة ان تلعب فيه دورا مهما.. ذلك العصر الذي نعيشه الآن والذي يمكن ان نطلق عليه عصر اللاقطبية, الذي يتزعمه حاليا الرئيس باراك أوباما. ويمكن أن نخرج بنتيجة محققة وهي ان تداعيات العصر الامبراطوري الامريكي قد انعكست علي الواقع العربي بصورة جذرية, فقد خلفت منظومة قيم تسود الدول العربية لا ترتبط بواقعها ولا ماضيها وتكوينها الاساسي, ويمكن ان نطلق عليها عصر الامركة.. فالأوضاع السياسية والداخلية والاجتماعية في غالبية الدول العربية قد تفسخت اوضاعها, وقصقصت اجنحتها, وباتت تغرد في الغالب خارج السرب وبلكنة امريكية, والثقافة العربية قد اقتصرت علي الاعلام الممول والمسلسلات المدعومة والسكايب والشاتينجchating بمعني الحديث عبر الانترنت والقنوات الرياضية والبرامج الحوارية التي تشتت الفكر والضمائر, والأغاني الهابطة, والبرامج غير الثقافية.. وغابت عنا تماما القيم والاعراف والتقاليد العربية المتفق عليها والتي تربينا عليها, ولم يتبق لنا من قيمنا سوي لغة عربية ركيكة موصولة بعبارات امريكية كدليل علي الرقي الاجتماعي. أما عن الاوضاع السياسية العربية, فقد تمزق النسيج العربي بالكامل, وبليت قماشته, وصار من غير الممكن اعادة رتقه من جديد, فالعراق الذي كان يشكل رأس المنارة العربية قد قصقصت اقلاعه, وفلسطين التي كانت تمثل قضية العرب قد انفرط عقدها بين حماس وفتح, والجامعة العربية قد تحولت الي بنيان بلا سكان يرعونه, وقوة ومتانة الموقف العربي السياسي باتت تقرأ في منظومات شعرية وقرارات عنترية, والساحة العربية قد اقتحمتها قوتان سوف تكونان رمانة الميزان في العصر القادم وهما تركيا وإيران. تبقي نقطة أساسية كانت تربط هذه الدول, وهي توجهاتها العربية, وكانت مصر في كل مراحلها, تشكل دفة التوجه بالنسبة لهذه المنظومة: فمصر هي منبع الفكر والثقافة والتعليم والريادة السياسية والاجتماعية, مصر هي مصيف ومشتي الدول العربية, أما عن العمل العربي المشترك, فكان يرتبط بصفة أساسية بالرئيس جمال عبد الناصر حتي ممن عادوه من العرب حتي فرضت القطيعة بين مصر والنظام العربي بعد اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية, ليتفسخ وبحق العمل العربي المشترك. والسؤال هو: هل يمكن لمصر ان تقود حركة الفكر العربي من جديد؟ فأنا لا أجد وبحق من يمكنه أن يحل محل دور مصر العروبي.. وهل يمكن للقيادات والنخب المصرية الفكرية, أن تصوغ منظومة قيم عربية يمكن لمصر أن تروجها عربيا, عبر المنتديات واللقاءات الشعبية, وإيجاد صلة ربط بين النخب والمثقفين العرب بتحرك ومبادرة مصرية. ذلك أن الإعلام الممول قد أصبح هو نافذة القيم الوحيدة التي تهتز لها أركان العقل العربي, وآن الأوان لأن يستعيد الفكر المصري والثقافة المصرية دورهما حتي لا ينفلت عيار الموقف العربي وينتهي معني العروبة تماما.