كتب:أسعد طه: كانت الطائرة تهتز بشدة والكابتن يعلن أننا في مأزق, قرأ محمد الفاتحة ثم رسم الصليب..! في الحقيقة فإن وصفها بالطائرة يدخلنا في دائرة الكذب, وأقرب شبيه لها تلك الحافلات التي تربط بين القري والأقاليم, غير أنها طائرة, صغيرة ومتهالكة وباعثة للأصوات والروائح الغريبة وفاقدة لكل أسباب الأمان, ملأت حقائبنا ممرها الضيق بين المقاعد المتأرجحة كما ملأت دورة المياه, لو كنت مكان السلطات في ذلك الزمان من ديسمبر عام ألفين لمنحت الركاب أنواط الشجاعة, ومنهم مرافقنا المترجم اليمني محمد جوباني الذي يعيش في هذه البلاد, والذي خاف كما خفنا حين بدأت طائرتنا القادمة من دوشنبه عاصمة طاجكستان تحاول الهبوط في مطار لينين أباد التي بات أسمها الآن خودجند, وعندما سألته زميلتنا لماذا وأنت محمد تقرأ الفاتحة ثم ترسم الصليب, أجابها ضاحكا في هذه الظروف الصعبة يجب أن يسلك المرء كل الطرق للنجاة! أيام قليلة ونغادر لينين أباد برا إلي قرية أسفرا, سألنا عندما وصلنا ما الهدف أجبت بأننا نعد فيلما وثائقيا عن المسلمين خلال العهد الشيوعي وكيف أستطاعوا الحفاظ علي دينهم, أوصلونا إلي بيت شيخ عجوز لهم, أستقبلنا بحفاوة, طلب عدم التصوير, خلعنا أحذيتنا ودخلنا, كنت وزملائي بملابسنا وهيئتنا بقعا إستثنائية في مشهد قديم يكاد يعود إلي آلاف السنين, ظلمة المكان ورائحته القديمة وحوائطه المتهالكة, ولمبة جاز مصرية معلقة علي الجدار في إنتظار وصول المساء, أسم الجلالة وحده هو زينة حوائط الدار, ومجموعة من الرجال العجائز ينتظروننا بلحاهم المبعثرة ووجوههم الآسيوية الطويلة وتجاعيدها الحاكية لأحداث تاريخية مرت هنا وأثرت علي العالم كله جلسنا علي الأرض وسط حفاوتهم, وفجأة نزلت الطبلية ورصت عليها أكواب الشاي وأكوام السكر, رحت أشرح هدفي, ما فعلته الشيوعية بكم يستأهل التوثيق, لكني شغوف اليوم أن أعرف كيف أستطعتم النجاة بدينكم, كيف أنشقت الأرض عن كل هؤلاء المسلمين في آسيا الوسطي بعد كل هذه الحرب الجبارة التي مورست ضدكم لإنهاء الوجود الإسلامي في المنطقة, ترجم صديقنا لهم, قالوا إنهم يرحبون بذلك شريطة ألا نقوم بالتصوير, سألنا بدهشة لماذا, أجاب شيخهم, التصوير حرام, ثم قام وأخرج لي كتابا ممزق الغلاف مطبوعا في السعودية وأشار إلي صفحة مكتوب عليها حكم التصوير, سألته تجيد العربية أجاب نافيا لكنه يحفظ شكل الصفحة, ويؤمن بما جاء فيها, التصوير حرام غادرت آسفا أسفرا, وأنتقلت منها إلي قري أخري وومنها إلي مدن أخري وإلي بلد آخر, طاجكستان وأوزبكستان وكازاخستان, أستمعت إلي الكثير من الحكايات, لكن القليلة منها سجلته عدسة الكاميرا, مرة بسبب قناعات الناس الدينية, ومرة بسبب رجال الأمن كما حدث عندما طردنا من قرية تشركو في طاجكستان, أحترمت رغبتهم ورأيهم, لكن حكاياتهم فاقت كل تصوري, أمر أغرب من الخيال, كيف أستطاع هؤلاء الذين تم عزلهم عن الحياة وعن التواصل مع أقرانهم المسلمين في أنحاء العالم الإحتفاظ بدينهم والوصول به إلي زمن ما بعد الشيوعية هنا سمرقند وبخاري وطشقند المساجد والقباب الأضرحة والقصور ومدن يقال عنها زينة الأرض ومركز الكون هنا الشعراء والأدباء الأساطير والحكايات وعلماء علماء في الشرع والفلك في الاقتصاد والكيمياء البخاري والزمخشري أبن سينا والفارابي في هذه الآراضي وبين آثار هذه الحضارات نقش الشيوعيون قائمة ممنوعات طويلة: تسمية الأبن أو الأبنة باسم مسلم, الصلاة, الصوم, الختان, القرآن, غسل الميت, صلاة الجنازة, دفنه وفق الشريعة, لقد قرأت وسمعت عن هذه القائمة قبل أن أصل, لكن لم أكن لأتخيل أن حتي الرموز كانت ممنوعة, سجادة الصلاة, المسبحة, رسم الكعبة, رسم الهلال, أي كتاب حتي ولو كان مجلة ميكي مادام مكتوبا باللغة العربية, تلك الحروف التي ظلوا يكتبون بها حتي عام ثلاثين من القرن الماضي قال لي أحدهم عندما كنا تلاميذا, كانت المدرسة تطلب من أطفال المسلمين أن يأكلوا في نهار رمضان أمامها, فإذا أمتنع أحدهم فإن ذلك يعني أنه صائم, ومن ثم تنزل أقصي العقوبات بأسرته حكي لي آخر, كنا في رعب أن يكبر أطفالنا وقد أنفصلوا عن دينهم, كنا في رعب أن يموت الإسلام في ديارنا, وأن نسأل عن ذلك يوم القيامة, فقررنا أن نكتفي بتحفيظ أولادنا القرآن, كان هذا هو الفعل الوحيد المقاوم الذي نملكه في هذه الأيام, كنا نمارسه سرا وندرك أن إنكشاف أمرنا سوف يكلفنا رقابنا كانت لنا أقبية تحت البيوت, وعندما يحل المساء ينزل محفظ القرآن سرا إليها, ويجلس مع الطفل يقرأ له ويحفظه ويعلمه الآية, ثم يحذره أن ذلك ممنوع وأن عليه ألا يحدث أحدا في الأمر, وأن إنكشاف ذلك معناه الموت لوالده, أي رعب هذا twitter@assaadtaha