* فكرى أباظة كتب قصيدة «قم يا أهلى شوف جنودك».. وأحمد فؤاد نجم وضع ديوانا كاملا لا شك أن أى ظاهرة فنيّة أو اقتصادية أو ثقافية أو رياضية أو سياسية، وغير ذلك من الظواهر، تنمو وتأخذ شرعيتها من إقبال الناس عليها، وبالتالى تداول أخبارها، وتعاطى تجليّاتها العديدة، ومتابعة تلك التجليّات، حتى تصير هذه الظاهرة أو تلك، إحدى المكونات الأساسية فى المجتمع، ولا يستطيع الناس أن يستغنوا أو يتخلوا عن هذه الظواهر فى حياتهم، إلا إذا حلّت ظاهرة جديدة تستطيع أن تجب الظاهرة التى قبلها، أو تقلّص من اتساعها وتناميها. ومن بين كل هذه الظواهر، نجد أن لعبة كرة القدم لم تتعرّض إلى ذلك الذى تتعرض له الظواهر الأخرى، فالإذاعة_ على سبيل المثال_، والتى نشأت فى مصر بتاريخ 31 مايو 1934، ونمتّ وتطورت وأخذت مساحة واسعة وعملاقة من الاهتمام لدى جماهير المستمعين فى مصر، واستقطبت الإذاعة كثيرا من الأسماء السياسية والثقافية والفكرية الكبيرة، ويكفى أن بيان ثورة 23 يوليو 1952 انطلق من الإذاعة المصرية، ولكن عندما دخل التليفزيون فى مصر عام 1960، بدأ يحدّ من أهمية ظاهرة الإذاعة، لدرجة كبيرة جدا، وأصبحت الإذاعة تعانى فعلا من انحسار شديد، فى متابعة المستمعين الذين هجروها إلى الشاشة البيضاء الصغيرة، والتى بدأت تلك الشاشة _بدورها_ تعانى من انحسار شديد، لأن الجمهور راح إلى ظواهر مرئية أخرى مثل الفيسبوك والتويتر والانستجرام، ولا ينتعش التليفزيون بشكل لافت إلا عندما يعرض مباريات كرة القدم. إذن تجد ظاهرة كرة القدم الرواج الأعلى فى العالم، وبالطبع فى مصر، فمنذ نشأة النادى الأهلى عام 1907، وهو يعتبر النادى الأقدم فى مصر، وكان أهليا، وكل مؤسسيه كانوا مصريين بامتياز، ولهم حضور اجتماعى وسياسى ملحوظ، وهو _أى النادي_ يحمل صفة الجماهيرية الواسعة، والمتابعة الأوسع، وكانت عضويته تزداد بشكل ملحوظ، ومن ثم كان لا بد أن يتم تأسيس نادى الزمالك، والذى أسسه الخواجة جورج مرزباخ، وكانت عضويته تجمع بين مصريين وأجانب، ولذلك كان اسمه «المختلط»، وجاء تأسيسه فى مايو 1911، أى بعد تأسيس نادى الأهلى بأربع سنوات، وكانت المنافسة بين الفريقين شديدة للغاية، وكان جمهور النادى الأهلى أكثر عددا، وذلك يعود لطبيعة وجنسية المؤسسين. ولولا هذان الناديان، لما وجدت مصر تلك المنافسة الحامية والشديدة، تلك المنافسة التى أنتجت متابعين ومشجعين من فئات وطبقات مختلفة، فكرة القدم، هى التى لم تعرف التصنيف والتناحر الطبقى أكثر من أى ظاهرة أخرى، وكان الجمهور يجمع بين الموظفين والتجار والأطباء والمهندسين والمثقفين دون أدنى تمييز، وكان كل هؤلاء يتركون تصنيفاتهم خارج أروقة التشجيع، وكانت المنافسة بين الفريقين تعمل على أشدها، وكان كل فريق يعمل على تطوير إمكاناته وفرص تقدمه على الآخر، وذلك تحت سقف المنافسات الطبيعية التى كانت تحدث بين أى فرقاء، وكانت تلك المنافسة تستوعب طاقات متنوعة لجماهير اللعبة الشعبية المحبوبة. وفى إحدى السنوات من عقد الأربعينات فى القرن الماضى، رأى بعض الوجهاء توحيد الفريقين أو الناديين تحت سقف واحد، وتشجّع الملك وأصدر أمرا بذلك التوحيد، وتشكلت بالفعل لجنة من محمد طاهر باشا، وجعفر والى باشا، وفؤاد أنور باشا، وفؤاد أباظة باشا، وكان معهم الكاتب الصحفى الكبير فكرى أباظة، والذى كان عضوا مؤثرا فى النادى، وبعد أن اجتمعت اللجنة قررت بالإجماع عدم الموافقة على ذلك التوحيد، وجاء فى التقرير الذى رفع إلى الملك: «إن ذلك التوحيد، سيقضى قضاء مبرما على اللعبة الشعبية المحبوبة، لأنه سيقضى على المنافسة الحامية بينهما، وهى سبب انتشار اللعبة بين الجماهير»، وهكذا فشلت تلك المساعى التوحيدية، ليستمر الناديان الفريقان حتى الآن، مع ارتفاع أشكال ومعدلات المنافسة التى تدفع كل فريق لتطوير نفسه، وللظهور بالشكل الأكثر لياقة وقوة ومهارة. وفى هذا الأمر كتب الكاتب والأديب وعضو البرلمان الكبير فكرى أباظة نشيدا يشبه النشيد القومى، أستأذن القارئ الكريم فى نشره هنا، حيث يقول النشيد: (قم يا أهلى شوف ولادك والبنود شوف كتايبك شوف جنودك والحشود شوف آيات النصر فى كل العهود شوف وسجّل فيها أمجاد الخلود انت دايما. انت دايما فى الأمام! كل نعمة فى رحابك عندنا دى مشيئة، دى إرادة ربنا من شيوخك اكتسبنا مجدنا وبشبابك احتفظنا باسمنا انت دايما، انت دايما فى الأمام! الرياضة دى غريزة فى طبعنا من زمان جريتها جرى فى دمنا والبطولة نبتت فى أرضنا أهديناها للجميع من عندنا انت دايما، انت دايما فى الأمام لما نادانا المنادى بالفداء فى البحار وفى القفار وفى السماء استجبنا واكتتبنا بالدماء واحتسبنا فرقة للشهداء انت دايما، انت دايما فى الأمام. ونجد أن الصحف والمجلات تكتظ بالمنافسات المختلفة، وبالأخص بين الناديين الكبيرين، ومن الممكن أن نجد رئيس التحرير ينتمى لفريق الأهلى مثل فكرى أباظة، ونجد رئيس القسم الرياضى زملكاويا متعصبا مثل الكاتب الصحفى محيى الدين فكرى، وبالطبع نجد بقية المحرريين ينتمون إلى فرق مختلفة، وهذا التنوع والاختلاف، تنبثق منه حالات تنافسية شديدة، تعمل على تطور الموضوع والريبورتاج والتحقيق والحوار الصحفى، ويكفى أن نطالع الصحف والمجلات لكى نكتشف أن التنافس الشريف والحميد، يقدّم موادا صحفية راقية، وبالطبع ينسحب ذلك على ممارسة الفرق الرياضية لممارسة ظاهرة التنافس الإيجابية، بعيدا عن أشكال التدنى التى تحدث أحيانا فى المجال الكروى خاصة، والمجال الرياضى عموما. ويحظى نجوم الكرة باهتمام بالغ من جميع المتابعين، من الجماهير الشعبية، والنخب المثقفة، والسلطات السياسية، ولم يكن دخول لاعبى كرة القدم إلى المجال السينمائى خاصة، والفنى عامة، غريبا عليهم، إذ إن مقولة ما انتشرت فى بعض السنوات تقول :» أقصر طريق إلى البلاتوه هو ملعب الكرة»، ومن هنا وجدنا أن صالح سليم أصبح نجما سينمائيا، وكذلك عادل هيكل، الذى ظهر قويا فى فيلم «إشاعة حب» مع عمر الشريف وهند رستم، كذلك يكن حسين ظهر فى فيلم «حديث المدينة». وظاهرة لاعب الكرة الذى أصبح نجما سينمائيا، لم تكن ظاهرة حديثة، ولكنها كانت ظاهرة ترافق بعض المنتجين والمخرجين فى عقدى الثلاثينيات والأربعينيات، وذلك للاستفادة من الرواج الجماهيرى الذى يحظى به لاعب الكرة، وهناك قصة حدثت عام 1948، عندما كانت الفنانة عزيزة أمير تعمل فى الإنتاج السينمائى، وتعاقدت مع ساحر الكرة عبدالكريم صقر، ليقوم بدور محورى فى فيلم «قسمة ونصيب»، وكانت شهرة عبدالكريم _آنذاك_ تفوق شهرة نجوم السينما أنفسهم، وكانت قصصه تروى، حيث إنه كان ضمن فريق النادى الأهلى، ولكنه انتقل فى صفقة مشهورة إلى نادى الزمالك عام 1938، وهذا البيع والشراء، كان ضمن مجالات التنافس التى ظلّت ترافق لاعبى الكرة المرموقين، وقصة الكابتن محمود الخطيب مع نادى النصر معروفة للجميع، وكان مدربه الأول الراحل الكابتن إبراهيم الشيخ شاهدا على واقعة انضمام كابتن الخطيب إلى النادى الأهلى. ومن المدهش أن عبدالكريم صقر رفض عرض التمثيل، رغم أنه كان ينطوى على قدرات تمثيلية وغنائية عالية، كما يشهد بذلك عدد من معاصريه، وكما أن مقولة «أقصر الطرق إلى البلاتوه، هو ملعب الكرة»، كانت هناك مقولة أخرى تقول بأن عمر لاعب الكرة لا يمتد إلا قليلا بعد الثلاثين، إلا أن عمر الفنان من الطبيعى أن يمتد طوال العمر، وفى تحقيق مهم كتبته المحررة عائشة صالح فى مجلة الكواكب عام 1966، نقلت رأيا للاعب الأشهر فى تاريخ الكرة المصرية «شاهين»، وهو كان حارس مرمى الزمالك، وصرّح بأن الفرصة التمثيلية لو واتته، فلن يتراجع إطلاقا، وفى هذا الشأن يقول للمحررة: «الشهرة جميلة، وأنا سعيد بهذه الشهرة جدا، ولو أنها تتحول إلى تريقة عند الهزيمة». ومما سبق، سنلاحظ أن لاعب الكرة الذى تحركه أشكال التنافس العديدة، ولم يكن طموح لاعبى الكرة إلى السينما، إلا إحدى آليات الترويج والتسويق له كلاعب كرة، وكان عمر الشريف هو النجم الأعلى رواجا بالنسبة للاعبى الكرة، كما أن هناك مشتركات كثيرة كانت تجمع بين لاعبى الكرة، وفنانى السينما، وأزعم أن المنافسة الحامية التى راحت تشتعل وتزداد الآن، هى لأسباب التوسع الكروى الذى أصبح ظاهرة لا يمكن إغفالها، أو التغاضى عنها فى قراءة المجتمع عموما. وكما أن المنافسة العالية جعلت من فكرى أباظة الكاتب الصحفى والسياسى المحنك، يكتب نشيدا جهير الصوت لناديه المفضل، نجد أيضا شاعرا شعبيا آخر، يكتب ديوانا كاملا، ويختار له عنوانا بارزا، وهو «فرحوا العناتيل»، الشاعر هو أحمد فؤاد نجم، وقد كتب الديوان عام 1966، وجاء الديوان كنوع من آليات المنافسة الحامية، حيث إن فؤاد نجم كان أهلاويا صميما، وكتب فى مقدمة الديوان يقول :»..إنه الجمهور الذى لا يجمعه على اختلاف أشكاله وألوانه سويء شئ واحد هو الجنون بحب الفانلة الحمراء، هذا الجمهور الوفى الذى وقف يساند فريقه فى محنته التى استمرت سنوات، ويلتصق به ويلتف حوله بصورة فى حد ذاتها درسا مفيدا فى التماسك وإنكار الذات تلقاه إداريو النادى ولاعبوه إبان المحنة على يدى الجمهور العظيم». وهكذا نجد أن التنافس ينتقل من الفريق، إلى الصحفيين، ثم إلى الشعراء والكتاب، وكذلك الفنانون، وفى كثير من الأحيان يتسبب هذا التنافس الحاد فى خصومات حقيقية، كما يتطور فى الملاعب إلى معارك دامية، يستخدمها بعض المغرضين فى ظواهر تخريبية أخرى لا تمت إلى عالم الرياضة بأى صلة على الإطلاق، وهذا الاهتمام الذى يبدو على هيئة أشكال تنافسية، لا بد من توجيهها وتقنينها، وتطويرها إلى فن وغناء وتمثيل وظواهر أخرى تنبث من ظاهرة اللعبة المحبوبة. ونعود إلى أحمد فؤاد نجم، الذى جعل من ظاهرة التشجيع فنّا وشعرا ذات صوت مسموع، ففى قصيدة له عنوانها «الجمهور الأدباتى» يقول (بعد أن اجتمع جمهور الأهلى ما بعد الفوز): ياما الأديب الأدباتي بيقول ملاحم ويهاتي فى حرب عنتر وزناتي والدور دا ع الكاس رسّانا قال الأديب قام عرّفنا على الفريق اللى نصفنا وقدرنا نفهم وعرفنا نقول غناوى على هوانا الله الله يابدوى غنى معانا. ورغم أن أحمد فؤاد نجم لم يعد نشر هذا الديوان فى أعماله الكاملة فيما بعد، ربما لأنه انتمى إلى الشعر السياسى والاجتماعى، إلا أن الديوان يظل ظاهرة فنيّة جميلة، انبثقت من ظاهرة كرة القدم الشهيرة، ومن قلب التنافس الإيجابى، ذلك التنافس الذى يحكم قانون التطور البشرى عموما، وتتجلّى أعظم صوره وإنجازاته فى تاريخ كرة القدم، وذلك فى مصر، وعلى مستوى العالم كله.