رسالة الفدائية «صابحة» ناقلة خرائط تمركزات العدو على صدر طفلها الرضيع قبل وفاتها بأيام: ربنا يقويك يا ريس ويحفظ جيش مصر    إزالة بعض خيام الطرق الصوفية بطنطا بسبب شكوى المواطنين من الإزعاج    جامعة الأقصر تحصل على المركز الأول في التميز العلمي بمهرجان الأنشطة الطلابية    اعرف الآن".. التوقيت الصيفي وعدد ساعات اليوم    استقرار أسعار الدولار اليوم الجمعة 26 أبريل 2024    ارتفاع أسعار الطماطم والبطاطس اليوم الجمعة في كفر الشيخ    أسعار الذهب ترتفع وسط بيانات أمريكية ضعيفة لكنها تستعد لخسائر أسبوعية حادة    أستاذ تخطيط: إنشاء 18 تجمعا سكنيا في سيناء لتلبية احتياجات المواطنين    رئيس هيئة قناة السويس يبحث مع وزير التجارة الكوري الجنوبي سبل جذب الاستثمارات    ادخال 21 شاحنة مساعدات إلى قطاع غزة عبر بوابة معبر رفح البري    في اليوم ال203.. الاحتلال الإسرائيلي يواصل أعمال الوحشية ضد سكان غزة    بالتردد| القنوات المفتوحة الناقلة لمباراة الأهلي ومازيمبي بدوري أبطال إفريقيا    موقف مصطفى محمد.. تشكيل نانت المتوقع في مباراة مونبيلييه بالدوري الفرنسي    الأرصاد تكشف مناطق سقوط الأمطار وتحذر من شدتها في الجنوب    رسالة من كريم فهمي ل هشام ماجد في عيد ميلاده    توقعات الأبراج اليوم الجمعة 26 أبريل 2024.. «الحوت» يحصل علي مكافأة وأخبار جيدة ل«الجدي»    فلسطيني يشتكي من الطقس الحار: الخيام تمتص أشعة الشمس وتشوي من يجلس بداخلها    مواعيد مباريات اليوم الجمعة 26- 4- 2024 والقنوات الناقلة    طيران الاحتلال يشن غارات على حزب الله في كفرشوبا    حكاية الإنتربول مع القضية 1820.. مأساة طفل شبرا وجريمة سرقة الأعضاء بتخطيط من مراهق    عبور أول سفينة شحن بعد انهيار جسر بالتيمور في الولايات المتحدة (فيديو وصور)    إشادة برلمانية وحزبية بكلمة السيسي في ذكرى تحرير سيناء.. حددت ثوابت مصر تجاه القضية الفلسطينية.. ويؤكدون : رفض مخطط التهجير ..والقوات المسلحة جاهزة لحماية الأمن القومى    أدعية السفر: مفتاح الراحة والسلامة في رحلتك    فضل أدعية الرزق: رحلة الاعتماد على الله وتحقيق السعادة المادية والروحية    التوقيت الصيفي في مصر.. اعرف مواقيت الصلاة اليوم الجمعة 26 - 4 - 2024    صحة القليوبية تنظم قافلة طبية بقرية الجبل الأصفر بالخانكة    أبناء أشرف عبدالغفور الثلاثة يوجهون رسالة لوالدهم في تكريمه    مؤشرات الأسهم الأمريكية تغلق على تراجع    أمريكا تعد حزمة مساعدات عسكرية جديدة بمليارات الدولارات إلى كييف    "تايمز أوف إسرائيل": تل أبيب مستعدة لتغيير مطلبها للإفراج عن 40 رهينة    أول تعليق من رمضان صبحي بعد أزمة المنشطات    قوات الاحتلال تعتقل شقيقين فلسطينيين بعد اقتحام منزلهما في المنطقة الجنوبية بالخليل    أبرزهم رانيا يوسف وحمزة العيلي وياسمينا العبد.. نجوم الفن في حفل افتتاح مهرجان الإسكندرية للفيلم القصير (صور)    الأسعار كلها ارتفعت إلا المخدرات.. أستاذ سموم يحذر من مخدر الأيس: يدمر 10 أسر    أعضاء من مجلس الشيوخ صوتوا لحظر «تيك توك» ولديهم حسابات عليه    بعد سد النهضة.. أستاذ موارد مائية يكشف حجم الأمطار المتدفقة على منابع النيل    وزير الخارجية الصيني يلتقي بلينكن في العاصمة بكين    «الإفتاء» تعلن موعد صلاة الفجر بعد تغيير التوقيت الصيفي    أذكار وأدعية ليلة الجمعة.. اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا    حركة القطارات| 45 دقيقة تأخير بين قليوب والزقازيق والمنصورة.. الجمعة 26 أبريل 2024    «جريمة عابرة للحدود».. نص تحقيقات النيابة مع المتهم بقتل طفل شبرا الخيمة    مع بداية التوقيت الصيفي.. الصحة توجه منشور توعوي للمواطنين    جدعنة أهالي «المنيا» تنقذ «محمود» من خسارة شقى عمره: 8 سنين تعب    خالد جلال يكشف تشكيل الأهلي المثالي أمام مازيمبي    إعلان نتيجة مسابقة المعلمة القدوة بمنطقة الإسكندرية الأزهرية    هيئة الغذاء والدواء بالمملكة: إلزام منتجات سعودية بهذا الاسم    سيد معوض يكشف عن مفاجأة في تشكيل الأهلي أمام مازيمبي    سلمى أبوضيف: «أعلى نسبة مشاهدة» نقطة تحول بالنسبة لي (فيديو)    تشرفت بالمشاركة .. كريم فهمي يروج لفيلم السرب    سيد معوض يكشف عن رؤيته لمباراة الأهلي ومازيمبي الكونغولي.. ويتوقع تشكيلة كولر    أحمد كشك: اشتغلت 12 سنة في المسرح قبل شهرتي دراميا    عاجل - تطورات جديدة في بلاغ اتهام بيكا وشاكوش بالتحريض على الفسق والفجور (فيديو)    هل العمل في بيع مستحضرات التجميل والميك آب حرام؟.. الإفتاء تحسم الجدل    الأقصر.. ضبط عاطل هارب من تنفيذ 35 سنة سجنًا في 19 قضية تبديد    تامر حسني باحتفالية مجلس القبائل: شرف عظيم لي إحياء حفل عيد تحرير سيناء    الشروق تكشف قائمة الأهلي لمواجهة مازيمبي    مسجل خطر يطلق النار على 4 أشخاص في جلسة صلح على قطعة أرض ب أسيوط    حظك اليوم.. توقعات برج الميزان 26 ابريل 2024    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جدل الرياضة والحضارة
نشر في الأهرام اليومي يوم 21 - 06 - 2019

يعكس هيكل التنافس الكروى بشدة حال النظام العالمى عالمنا المعاصر فى ثوبه المعولم بدرجة مخيفة من الدقة ومن أكثر من زاوية. فعلى صعيد التنافس حازت القارتان الأكثر تقدما على الصعيد الكروى على نصيب الأسد: القارة الأولى هى أوروبا، مركز اللعبة، ونقطة انطلاق المونديال. وليس هذا بغريب على أوروبا التى لعبت لزمن طويل دور المركز الحضارى، ففيها نمت أكثر الثقافات حداثة، وتصارعت جل التيارات الفلسفية، وتبلورت جل التوجهات الفكرية التى لا تزال تحكم عالمنا المعاصر.
كما لعبت القارة العجوز مع الولايات المتحدة، القارة الأكثر شبابا فى العالم، دور المركز الإستراتيجى الذى تحكم فى مسيرة النظام العالمى، وقاد مسيرة العولمة. وفى موازاة ذلك كان طبيعيا أن تلعب أوروبا دور المركز الكروى، فعلى ملاعبها يتنافس أفضل لاعبى العالم ونجومه البارزين، ويتصارع أفضل المدربين والمخططين الموصوفين بالعبقرية أو حتى بالجنون، وترتطم عقول المحللين الفنيين.
والثانية هى أمريكا الجنوبية، القطب الذى يتقاسم المركزية الكروية مع أوروبا بديلا عن أمريكا الشمالية فى عالم القطبية الإستراتيجية، كونها تمتلك قسطا وافرا من اللاعبين والمدربين القادرين على ممارسة الإبداع الكروى خصوصا فى دول كروية كالبرازيل والأرجنتين وأوروجواى، التى فازت بتسع بطولات كأس عالم من مجموع 20 بطولة، فى مقابل إحدى عشرة بطولة فازت بها أوروبا موزعة على دول خمس هى: ألمانيا وإيطاليا وانجلترا وفرنسا وإسبانيا. كما قامت معظم دولها بتنظيم المونديال، خصوصا أوروجواى التى استضافت أول بطولة عالم عام 1930 وفازت بها، ثم البرازيل، وشيلى والأرجنتين، أما المكسيك فنالت حظ تنظيم البطولة مرتين عامى 1970، 1986م.
................................
ومن حول المركز الأورو أمريكى يمتد محور محيط تلعب أطرافه أدوارا مكملة، تكاد لا تنافس على البطولة اللهم سوى من بعيد وبخجل شديد، تتوزع دوله على القارتين الكبيرتين مساحة وعددا فى آسيا وإفريقيا. فآسيا، رغم أنها تحتوى تقريبا على نصف سكان المعمورة بفضل الكتلتين الصينية والهندية، ورغم أنها تضم دولا كاليابان وكوريا الجنوبية والصين تجسد الصعود الاقتصادى والسياسى لهذا الجانب من العالم، فإنها لم تفز بالبطولة قط، وإن كانت قد فازت بحق تنظيمها أكثر من مرة. أما إفريقيا السمراء، فقد أُسند إليها تنظيم البطولة مرة وحيدة فى تاريخ اللعبة (2010)، احتضنتها دولة جنوب إفريقيا الأكثر غنى بمواردها الطبيعية وتجربتها الإنسانية، ورغم ذلك فإن محاولات التشكيك فى قدرة هذا البلد على تنظيم الحدث الكبير لم تتوقف قط، حتى بدأت البطولة بالفعل، وانتهت على خير حال.
ولا يبدو الفوز بالبطولة فقط هو الأمر الصعب على دول هذا المحيط بل أيضا مجرد المشاركة فيها، فالفرق المسموح لها بالمشاركة قليلة العدد قياسا إلى عدد الدول المنضمة للاتحاد الدولى (فيفا) والذى يزيد على المائتين، ومن ثم يخضع الجميع إلى تصفيات شاقة وصارمة، يتم من خلالها تدوير نحو ثلث عدد المقاعد فقط (11 مقعدا تقريبا) من 32 مقعدا على دول العالم خارج المركز الأورو أمريكى، خصوصا أن عدد الدول المشاركة فى المونديال فى بدايته كان قليلا ثم تطور من 16 إلى 24 إلى 32 فريقا. ومن ثم فالقارة الإفريقية، على سبيل المثال، التى صار لها الآن خمسة ممثلين فى العرس العالمى كان لها ممثل واحد فقط حتى مونديال عام 1978م، ثم ممثلا فى البطولات الثلاث التالية (1982، 1986، 1990) وثلاثة ممثلين فى البطولات الثلاث التالية أعوام (1994م، 1998م، 2002م) ثم خمسة ممثلين فى البطولات الأربع الأخيرة.
وهكذا يعكس مدى انتشار شعبية المونديال بين جماهير العالم كله، مع عجز معظم الدول عن التنافس فيه ناهيك عن الفوز به خارج محور أوروبا أمريكا الجنوبية، حال العولمة الرأسمالية التى أمسكت بخناق الكوكب كله، وفرضت نفسها على البشر أجمعين رغم أن الفاعلين فيها نخبة، والمتحكمين بها قلة، والحاصدين لثمرتها قليلة أهمها يقع فى محور أوروبا أمريكا الشمالية. وكما تحتكر ثمانى دول فقط عدد مرات الفوز بالمونديال الكروى، فثمة دول خمس دائمة العضوية بمجلس الأمن هى التى تحتكر القرار السياسى الدولى، فضلا عن مجموعة الدول الثمانى التى تحتكر القرار الاقتصادى العالمى.
قسوة العولمة تغتال ديمقراطية الكرة
أما من زاوية الجماهيرية فيبدو المونديال الكروى هو الأكثر تعبيرا عن حال العولمة الرأسمالية بكل قسوتها وأنانيتها. فقبل نحو العقدين كان العالم كله يتمكن من متابعة المونديال عبر التليفزيونات الرسمية مقابل مبالغ زهيدة، ليلتف حوله كل الناس فى أربعة أرجاء الأرض تعبيرا عن ديمقراطية اللعبة وإنسانيتها. فإذا لم تكن كل الدول مشاركة بفرقها، فرعاياها مشاركون بالرؤية والمتابعة والنقاش حول البطولة ونجومها،كما كان أهل قريتى الصغيرة قبل ثلاثين عاما يتشاركون طوال النهار فى نقاش ساذج لكنه جميل حول أبطال المسلسل الذى شاهدوه ليلة الأمس على شاشة القناة الأولى وشبه الوحيدة على التليفزيون الرسمى. ومع تغير إيقاع العصر إثر التقدم التكنولوجى المفرط تحول الأمر جذريا، فازداد عدد القنوات الرسمية، وولد التليفزيون الخاص بقنواته الأكثر تعددا وحيوية. ولأن الأمر نفسه قد حدث فى جل البلدان العربية فقد صار الفضاء محملا بأكثر من ألف قناة تليفزيونية، ناهيك عن القنوات العالمية بلغاتها الأجنبية الممتدة عبر الأثير.
لقد توسع الفضاء الإعلامى كثيرا، مثلما هيمنت منظمة التجارة العالمية على الاقتصاد الرأسمالى، فكلا النسقين: الفضاء الإعلامى، والعولمة الرأسمالية يتمددان عريضا ليضما العالم فى مشهد واحد ممتد يطالع معه كل طرف باقى الأطراف، ولكن المفارقة المذهلة أن هذا الامتداد لم يزد من تجانسهم بل إنه فرق بينهم وعزلهم عن بعضهم، حتى صاروا يتراءون ولكنهم لا يتشاركون.
ففى حال العولمة تنسكب العوائد الضخمة فى جيوب أصحاب الشركات المتعددة الجنسيات على حساب الشعوب الفقيرة، من دون قدرة حكوماتها أحيانا على الاعتراض. ومن دون رغبتها أحيانا أخرى، عندما يتغلب لديها دافع الكسب الذاتى الذى تجنيه من لعب دور «السمسار» السياسى التابع للتاجر الكبير، على دوافع مثل تنمية بلادها ورعاية مواطنيها.
وأما فى حال المونديال، فقد لعبت القنوات التليفزيونية الكبرى دور الشركات متعددة الجنسيات، عابرة القوميات، باحتكارها لحق نقل البطولة، وقيامها بالبيع لقنوات إقليمية أصغر تتولى توزيع مشاهدتها فى محيطها الإقليمى عبر التشفير الذى يعلى مبدأ «ادفع لتشاهد»، ولأن الدفع بالدولار الذى لا يتعامل به كثيرون من أهل بلادى، والبلاد التى تشبهها، فقد حُرمت الغالبية من الإسهام فى الحدث العالمى الكبير ولو بالمشاهدة من بعيد بعدما غاب فريقهم عن المنافسة فيها.
وهكذا لم يعد الناس فى بلادى يشاهدون الحدث ويحكون عن نجومه مثلما كانوا يفعلون. لقد حرموا من الحدث الكبير المشترك الذى يجمعهم مع أمثالهم من أهل الأرض. لقد تمدد الفضاء الإعلامى ولكن اللحمة المشتركة تفككت بين الجماهير، فالقليلون فقط يشاهدون، بينما الكثيرون محرومون، إنها حال عالمنا اليوم مع العولمة، حيث يثرى القليلون ويحتكرون، ويجوع الكثيرون أو يمرضون.
وهكذا لم يعد ثمة معنى للحديث عن «القرية العالمية»، لأن القرية فى السوسيولوجيا الثقافية تتأسس على معانى التلاحم والتراحم والتكتل و الحميمية، وهى المعانى التى عايشتها فى قريتى قبل عقود، أما عالم اليوم فلا يعدو أن يكون مسرحا ممتدا، واسعا ومكشوفا، تملؤه سياسات القوة والعنف، ويحمل فى باطنه شتى صنوف التمييز التى أسقطت «عالمية الكرة وإنسانيتها» تحت أقدام العولمة الرأسمالية بأنانيتها وقسوتها.
الدفاع والهجوم.. بين الكرة والسياسة
تنتمى جل الفرق العربية إلى فئة المحيط الهامشى فى كرة القدم، والأمر هنا ليس غريبا أو مناقضا لحالتنا الحضارية أو الإستراتيجية، فنحن على الصعيدين لسنا أكثر من هامش. فعلى صعيد تنظيم البطولة لم يحقق أى بلد عربى هذا الإنجاز، الذى فشلت فى تحقيقه مصر والمغرب عندما ترشحتا أمام جنوب إفريقيا لتنظيم بطولة عام 2010م.
نعم تحقق هذا الانجاز أخيرا ولكنه يظل نظريا حتى الآن، إذ يفترض أن تنهض قطر بمسئولية البطولة القادمة 2022م، رغم ما يثور من جدل حول إسناد شرعية تنظيم البطولة إليها. وعلى صعيد المشاركة شاركت بعض الفرق العربية كالسعودية والمغرب خمس مرات تقريبا، وبعضها الآخر كتونس والجزائر نحو أربع مرات، ومصر ثلاث مرات، أما العراق والكويت والإمارات فمرة واحدة، بينما عجزت الدول العربية الأخرى عن المشاركة.
أما على صعيد تحقيق الإنجازات فيبدو الأمر أسوا من القدرة على التنظيم والمشاركة. فقطعا لم يفز فريق عربى بالمونديال، ولا يملك أى بلد ذلك الحلم فى المستقبل المنظور، حيث ظل العرب عاجزين، اللهم فيما ندر، عن تجاوز الدور الأول. ومن تجاوزه (الجزائر والمغرب والسعودية) خرج سريعا من الدور الثانى، فلم يصل إلى الدور الثالث سوى فريقين من إفريقيا (غير عربيين) هما السنغال والكاميرون.
وفى المونديال الأخير (الروسي) بدا الإخفاق العربى أكثر مما هو معتاد، حيث خرجت كل منتخباتنا من الدور الأول، ولم يصعد أحدها إلى الدور الثانى، على نحو لفت أنظار المحللين الرياضيين فاسالوا حبرا غزيرا فى محاولة الإجابة على سؤال: ماذا حدث فى المونديال الأخير؟، لماذا أخفقنا؟. لماذا لعبنا مثل فئران يحفزها الخوف وحده من المحيطين بها، لا يملكون الثقة بأنفسهم، ولا يستطيعون الوقوف على أقدامهم، رغم ما لدى بعضهم على الأقل من مهارات حقيقية، يبدونها أثناء اللعب مع فرقهم فى الدوريات الأوروبية أو حتى المحلية؟.
والبادى لدينا أن الإخفاقات العربية إنما ترجع إلى سيادة حالة من عدم الثقة بالنفس، والشعور بالعجز عن مجاراة الآخرين، على الصعيد العالمى، على عكس ما نملكه من قدرات تنافسية على الصعيد القارى. فمصر، على سبيل المثال، تلعب على الصعيد القارى دور البرازيل على الصعيد الدولى، فهى البلد الأكثر وصولا إلى نهائيات كأس الأمم الإفريقية، مثلما أن البرازيل هى الأكثر مشاركة فى نهائيات كأس العالم.. وهى الفريق الذى ينفرد بالرقم القياسى لعدد مرات الفوز بكأس الأمم (8 مرات) مثلما أن البرازيل صاحبة الرقم القياسى للفوز ببطولة كأس العالم (5 مرات)..
نعم مصر هى سيدة الكرة الإفريقية، مثلما أنها قوة إقليمية كبرى، لكنها ليست موجودة على صعيد المونديال لأنها ليست قوة عالمية كبرى، فلسوء حظ مصر أن كاس العالم بطولة حديثة، لم تقم فى الحقبة الفرعونية وإلا كنا حصلنا عليها كثيرا بعد الفوز على الحيثيين والبابليين وربما الفرس والهكسوس. ذلك أن الشعور بالجدارة الحضارية إذ يضع الدولة فى مستوى العالمية إنما يجعلها فى حالة هجوم مثل فريق كرة ساحق الفعالية، والعكس صحيح، عندما تشعر دولة بغياب جدارتها الحضارية ينكفئ كل ما فيها على داخله، متخذا موقف الدفاع عن الذات، درءا لعوامل التفكك دفاعا عن الوطن حسبما يقضى علم السياسة، أو عن المرمى كما تقول أدبيات كرة القدم، ولكل من الحالتين: الدفاع والهجوم متطلباتها وسياقاتها.
السمة الأساسية لحالة الدفاع كونها سلبية، ترتبط بالعقم، لا تأتى بجديد فى أحسن الأحوال، بينما تأتى بالسيئ فى أغلب الأوقات، لأن المدافع عن نفسه لا يطمح سوى للبقاء فى مكانه، لا يبارحه. فإذا ما نجح فى تحقيق مراده، لم يكسب شيئا لأن هدفه لم يكن سوى صفر كبير وقد حصل عليه. أما فشله فى تحقيق المراد فيعنى تراجعه إلى الخلف، أى إلى ما دون الصفر. ولكن جاذبيتها تكمن فى سهولتها، إذ لا تحتاج إلى تخطيط مبدع، ولا إلى اتخاذ مبادرات جسورة، ولا إلى شجاعة نفسية، بل فقط إلى تحوصل على النفس. انكفاء على الذات. احتماء بالكهف المحيط والآمن من مخاطر الفضاء الرحيب والواسع خارج ذلك الكهف.
أما السمة الأساسية لحالة الهجوم فتتمثل فى طموحها الإيجابى لتحقيق الأهداف الكبيرة، فالهجوم الذكى المخطط، وإن لم تتحقق أهدافه كلها، فإن إنجاز بعضها قد يمنح الكيان قوة الصمود وإرادة التقدم، والأمل فى إنجاز ما تبقى. ولكن عيبها الأساسى يتمثل فى صعوبتها البالغة ومخاطرها الجمة. تتمثل صعوبتها فى الحاجة إلى ذهنية خلاقة ومبدعة، تفكر وتدبر. وإلى عزم شديد يبادر ويتحمل. وإلى شجاعة فائقة، تتجاسر وتتقبل النتائج، وتلك جميعها صفات مثالية قد تتوافر للكيان فى حالة تيقظه، كما قد تغيب عنه فى حالة التيه أو الاضطراب. كما تكمن مخاطرها فى ردود الفعل السلبية الناجمة عن الاندفاعات الهجومية، والتى تسمى فى دنيا الكرة بالهجمات المرتدة، وفى عالم السياسة بالمخاطر الإقليمية والدولية، فالقرار الجسور للدولة قد يأتى بنتائج عظيمة، مثلما قد يأتى بنتائج وخيمة.
وهنا تأتى أهمية الحنكة والدراية وذكاء الملعب لدى لاعب الكرة ومدربه. كما تأتى أهمية الدراسة والتخطيط لدى مسئولى الدولة وقادتها، فجميعها مهارات تقلل من الخسائر وتوقعاتها، وتزيد من المكاسب واحتمالاتها، حيث يأتى الهدف الصريح لفريق الكرة بإصابة شباك الخصوم، من دون خطر على شباكه هو، مثلما يتحقق الهدف المجازى لمصلحة الدولة من قبيل التحرر السياسى دون خطر وقوع الفوضى، أو من قبيل التحرر الاقتصادى دون وقوع فى خطر التبعية للسوق العالمية، وهكذا من أهداف يمكن تحقيقها، مع تجنب الأعراض الجانبية لها، قدر الممكن.
ما يعوق الانتقال السلس بين الدفاع والهجوم هو انتقال الآفات نفسها التى تعانى منها الثقافة العربية إلى حقل التنافس الكروى. فثمة أصداء لظاهرة حكم الفرد فى جل أنحاء العالم العربى، أخذت تتردد فى ملاعب الكرة ممثلة فى التعويل المفرط على (اللاعب الفرد) أو النجم الأكبر باعتباره مخلصا كرويا يناظر المخلص السياسى الذى طالما تجسد فى حاكم أوحد. فإذا ما تعثر أو أصيب وغاب عن مباراة، انتكس الفريق كله، ومن ثم صارت تسمية منتخب مصر ب «منتخب صلاح» متداولة ورائجة وغير مستغربة لأن الزعيم الراحل أنور السادات، مثلا، كان يتحدث عن مصر وجيشها قائلا: جيشى، وشعبى. آفة أخرى تبدت فى ملاعب الكرة مثلما هى فى ساحات السياسة العربية، تتمثل فى التعويل على نظرية المؤامرة التى أدمنها الساسة العرب وبرروا بها إخفاقاتهم المتعددة، التى طالما نسبوها إلى طرف خارجى معاد طالما كان إسرائيل الصهيونية أو الغرب الإمبريالى، حتى لو كانت تلك الإخفاقات داخلية تخص الديمقراطية وحقوق الإنسان. النظرية نفسها استعذبتها جل الفرق العربية التى اعتبرت الحكام متآمرين عليها لأنهم لم يحتسبوا هدفا (حالة المغرب) أو ضربة جزاء (حالة مصر).
وبينما استهلكت نظرية المؤامرة الطاقة النفسية للحكام والشعوب فلم يلتفتوا إلى الأسباب الحقيقية للإخفاق السياسى، فقد استهلكت النظرية نفسها طاقة الأجهزة الفنية والإدارية فى تبرير الهزائم، فلم ينصرفوا إلى تحسين الخطط الكروية. وبالقطع لن يفسر لنا أحد منهم كيف حصلت مصر، مثلا، على بطولة الأمم الإفريقية ثلاث مرات متتالية، ولماذا أخفقت ثلاث دورات تالية فى مجرد الوصول إلى نهائيات البطولة، فى مفارقة تاريخية لم تحدث من قبل. وهل كان فوزها بفعل تحيز لمصلحتها كما كانت إخفاقاتها بفعل مؤامرة عليها، أم أن الأمر كان محض جاهزية واستعداد، سياقات سياسية وحضارية إيجابية، تتوافر هنا فيكون الانجاز وتختفى هناك فيكون الإخفاق؟..إنه درس السياسة والحضارة الذى لا يغيب أيضا عن عالم الكرة، كونه تجسيدا لمنطق التاريخ وجدل الحياة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.