فى بداية الهوس العالمى بكرة القدم كتب توفيق الحكيم: «انتهى عصر القلم وبدأ عصر القدم»، فى الوقت نفسه تقريبا (قبل ستين عاما) سألوا الأرجنتينى خورخى لويس بورخيس عن هذا الهوس، أجاب «الغباء ينتشر فى العالم والدليل تصارع أحد عشر لاعبًا مع أحد عشر لاعبًا على الركض وراء كرة، فهذا الأمر لا يوجد فيه أى جمال»، الأديبان الكبيران فاتهما الإتجاه الليلة إلى إستاد القاهرة (وهو فى أبهى صوره) لمشاهدة ما وصلت اليه اللعبة من مجد، أشعر بفرح خاص بهذه البطولة لأنها فى القاهرة، عاصمة الإنسانية قبل أن تكون عاصمة اللعبة، سبق اختيارها استفتاء على مكانتها، ورغبة حقيقية من أبناء القارة فى استرداد مصر عافيتها، فى ظل منافسة متحضرة ضد بلد ثقيل معنويا وماديا واقتصاديا مثل جنوب إفريقيا الذى سبق أن نظم بنجاح كأس العالم، الليلة سيتابع عشاق الكرة الإفريقية السعيدة ضربة البداية، بين مصر وزيمبابوى، فى البطولة الأكبر فى تاريخ اللعبة فى القارة الحزينة والتى تضم 15% من سكان العالم. سيتوقف «الرغى» المحلى التافه الذى سبق البطولة حول المؤجلات والسمسرة ووقائع لا تليق، لأن مصر ستلعب، ولأن الجمهور هذه المرة، وأكثر من أى مرة، يحتاج بطولة، حتى لو فى اللعب، لكى يطمئن قلبه، أنت أمام مبارة بين طرفين، كل منهما يملك العدد نفسه من اللاعبين، والذى لم يفطن إليه بورخيس (الذى ضاع بصره بسبب قراءة الكتب). أن الملعب المساحة الوحيدة على كوكب الأرض التى يتجلى فيها العدل فى أزهى صوره، المخطئ يعاقب وعلى الملأ، الملعب مساحة للتعبير عن الإرتجال والتعرف على الآخر «العب لكى أعرفك!»، فى الماضى كانت كرة القدم تغازل الجانب الطفولى لدى اللاعب وجمهوره، كان المدرب يحرض لاعبيه على الارتجال والابتكار فى اللعب، الذى تم استبداله بالمدير الفنى المنضبط الذى يستبعد الذين لا ينفذون الأوامر، المدير الفنى الذى ابتكرت الرأسمالية العالمية منصبه، وبعد أن تحول الملعب الى «ستوديو» يقدم «شو»، من أجل مزيد من الإعلانات وبيع حق البث بسعر أعلى، ولا يهم حرمان الفقراء من متابعة لعبتهم التاريخية التى تخصهم دون غيرهم، الليلة ستبدأ إفريقيا فى تقديم نفسها من جديد، لاعبوها فى العالم كله يشيرون إلى حيوية ما داخل القارة، الأندية الكبيرة فى إنجلترا وفرنسا وإسبانيا وإيطاليا بدون الأفارقة لن تكون أندية كبيرة، القارة المنهوبة فى يدها مستقبل اللعبة، لأن الفطرة مازالت فى مكانها، ولأن الرغبة فى اللعب أبعد من حسابات الرأسمالية التى تبحث عن «زبون» لا عن مشجع بسيط تلعب كرة القدم فى حياته دورا كبيرا، الليلة سيتوقف الحديث إلى ما بعد البطولة، عن استبعاد فلان وضم فلان، لأن المدير الفنى حسم الأمر وانطلقت صفارة البداية. فى مصر يوجد 50 مليون مدير فنى على الأقل (كما فى كل العالم) وكلهم على صواب، ولن تتوقف وجهات النظر «الفنية»، ونسج الحكايات التى أدت الى سوء تقدير صاحب القرار، وتجاوز تشكيل الفريق المصرى حدود مصر هذه المرة، نبيل معلول المدرب التونسى الكبير، مستاء من استبعاد أجييرى لكهربا ورمضان صبحى وأحمد فتحى من تشكيل الفريق، لا توجد حدود الآن، وهو يدلى برأيه محبة فى الفريق المصرى بالطبع، رغم وجود فريقه فى البطولة ويتمنى معلول فوز بلاده بها، لم تعد كرة القدم لعبة ولكنها أصبحت أسلوب حياة، على حد تعبير جورج ويا الأسطورة الذى سبق الجميع فى إفريقيا ونال جائزة أفضل لاعب فى العالم، المنتخب الوطنى يملك جيلا مختلفا عن الأجيال التى سبق لها الفوز بهذه البطولة، لأنه خضع لقوانين السوق ودخل مفرمة الاحتراف المربحة له، ومطالب بتقديم جزء من الجميل لعلم بلده، ومطالب أيضا بالتعبير عن الروح الناهضة الشابة التى تحلم بشكل جماعى بمستقبل أفضل، فى لحظة يشعر المشجعون فيها بعزلة شاسعة، يوجد ضمن فريقك محمد صلاح، أجمل هدايا المصريين للعبة كرة القدم، واحد من القلائل فى تاريخ اللعبة الذى يشعرك بالسعادة فور لمسه الكرة، هو اللاعب «الأصلى» الذى يلعب لكى يستمتع هو أولا، (وخلقت الألعاب لهذا الغرض)، تشعر أنك أمام طفل كبير تحرسه طيبة قديمة ورضا وبهجة، ربع الساعة التى لعبها فى مباراة غينيا الأحد الماضى، تؤكد أن شيئا ما لا علاقة له بالمهارة ولا الخطط يدخل الملعب معه ينشر طاقة إيجابية مفرحة فى الملعب وفى المدرجات، موهبة ريفية نقية ستنشر عبيرها فى غرفة الملابس وفى الملعب، أنت تمتلك فريقا محترما، وسيزداد قوة مع التقدم فى المباراة، لأنه يعرف أن القارة الحزينة التى تلعب كرة سعيدة، تخبئ الأساطير فى جرابها، وقادرة على المكسب، ولأن كل شعب أرسل فريقه إلى القاهرة بحثا.. عن البطولة.