شاهدت قريبا، حديثا مصورا لأحد المسئولين، الذى ثبت إدانته بالفساد وحُكم عليه، وهو يلعن الفساد والفاسدين، ويعظ بأهمية محاربته، بل يؤكد ضرورة التكاتف على قلب رجل واحد لمواجهته. اليوم هذا المسئول يقضى فترة عقوبته، جراء فساده، ورغم ذلك، هناك كثيرون غيره، ما زالوا يمارسون فسادهم دون أن يعكر صفوهم شيء، وفى تقديرى يفعلون ذلك لأحد سببين. الأول، قناعتهم أن ما يمارسونه من فساد، هو حق لهم نتيجة تولى مسئولية العمل الذى يؤدونه، فبات لهم أن يمنعوا أو يمنحوا وفق رغباتهم ومدى استفادتهم فقط، دون النظر لأى اعتبارات أخرى من عينة المعايير القانونية السليمة وما شابه، فهذه الأشياء بالنسبة لهم، عبارة عن جمل صماء، يتم ترديدها من باب الوجاهة الاجتماعية وقت اللزوم فقط، إذا اقتضت الضرورة، مثلما كان يفعل المسئول الفاسد الذى تحدثنا عنه سابقا. الثاني، أن ممارسة الفساد تأتى فى إطار الفهلوة، فهذا النوع من الفاسدين شديدى الثقة فى أنهم على قدر متميز من الذكاء يحميهم من الوقوع تحت طائلة القانون، ومن ثم، يعيثون فى الأرض فسادا، ولا يتوقف الواحد منهم، إلا لحظة القبض عليه. ولكنى بحثت عن أصل هذا الفساد، علنى أعرف لماذا استشرى لهذا الحد ؟ وأتمنى أن يدور حوار مجتمعى بناء وهادف، يصوٌب هذا الاعوجاج فى سلوكنا، لأن الفساد، ما كان له أن ينجح ويترعرع، إلا بوجود بيئة خصبة وجيدة تسمح له بالنمو. هذه البيئة تضمن وجود عناصره مجتمعة، الفاسد والمُفسد، وصولاً للعنصر الأكثر أهمية، تهيئة الأوضاع لحماية هذا الفساد! المتابع لأمور كثيرة تحدث على أرض الواقع، قد يصيبه التخبط والارتباك من فرط الذهول، فمثلا، يبدو التوكتوك تجسيدا لتلك الحالة، فهو ممنوع من السير فى الشوارع، وغير مسموح بالترخيص له، وفى الوقت نفسه مسموح بتصنيعه وأيضا استيراده! وهى معادلة عجيبة بشكل يدل على تخبط إدارى يؤكد أننا نتعامل فى أُطر منعزلة إداريا، ورغم سوءاته المتعددة والمتكررة، مازال التوكتوك يسير بلا لوحات معدنية، فيخالف المرور، على مرأى ومسمع من الجميع، ولا تتم محاسبته، وأيضا يحقق أصحابه أرباحا، ولا يدفعون ما يقابلها من ضرائب! وننتقل إلى المقاهى التى تنتشر فى ربوع بلدنا بوضوح تام، النسبة الأعظم منها تعمل دون ترخيص، لصعوبة تقنين أوضاعها، بحكم القانون، الذى ينص على غلقها، لما تسببه من إزعاج وتلوث وازدحام مرورى خانق، واستهلاك مياه وكهرباء، إما بسعر المنزلى وهو أقل من التجارى العادل، أو دون وجود عداد لقياس الاستهلاك! لنكتشف أننا أمام جريمة إضافية تتعلق بسرقة المياه والكهرباء! ونشير إلى أن القانون أوضح بدقة تامة آليات غلق المقاهى المخالفة، ومع ذلك تخرج الحملات مصحوبة بكاميرات التصوير، وهى متوجهة صوب المقاهى المخالفة لتغلقها، وسرعان ما تعاود نشاطها، فور مغادرة الحملات، ومن كثرة تكرار هذا المشهد، استاء الناس، ولكن لأن استياءهم بلا ضرر يمكن أن يصيب السادة المسئولين عن متابعة هذه المخالفات، فسيظل الحال على ما هو عليه! وهذه النقطة تحديدا، توضح بجلاء شديد ماهية تهيئة الأوضاع لحماية الفساد، فالحملات تخرج صوب عدد من المقاهي، رغم أن المخالفات تصل أعدادها لمئات الأضعاف ممن تم غلقها، ولكن المطلوب إشغال الرأى العام بوجود حملات لغلق الأماكن المخالفة، ودقائق وتعاود نشاطها، سلوك مهين ومشين للإجراءات القانونية. فعندما يتحدث أحد أصحاب هذه المقاهي، عن نفوذه وعلاقاته، التى تمكنه من استمرار فتح هذا المقهى المخالف، نتأكد وبلا شك أننا أمام وقائع فساد مكتملة الأركان، ورغم ذلك لا نرى تعاملا معها بالحسم المطلوب، وبات الناس يتساءلون، إذا كانت هذه الوقائع تمثل مخالفات واضحة وصريحة، فلماذا استمرارها؟ إذا أردنا نموذجا صارخا للفساد، مؤكدا ما سبق، يكفى مشاهدة مئات الآلاف من العقارات المخالفة فى كل محافظات مصر، وأغلبها، يمكن معرفتها بمجرد النظر فقط، شاغرة بالسكان، ويعيشون بها مع كل وسائل الراحة فى ظل توافر المياه والكهرباء، ولا يضير من وجود بعض المحال أسفل هذه العقارات، منها أفران العيش، التى تعمل دون توافر أى اشتراطات أمان على الإطلاق، لتكون بمنزلة قنابل موقوتة، جاهزة للانفجار فى أى وقت! كل هذه المبانى وغيرها، لم تظهر للعيان فى لحظة من الزمن، بل أخذت وقتها الكافى تماما، حتى وصلت لهذا الارتفاع الذى لا تخطئه عين. و باتت أعيننا جميعا وبلا استثناء لا تخطئ وجود الفساد، ليس فقط فى المخالفات، ولكن أيضا فى المخالفين، ووصل الأمر إلى أن يتساءل الناس لماذا يُختص عدد من المسئولين، يتقاضون مبالغ مالية كبيرة جدا جدا، نتيجة توليهم مناصب معينة، تجعلهم أعضاء لجان وهيئات كثيرة، ومن ثم تتضخم دخولهم بدرجة مُوحشة، بعد أن ذهب الحد الأقصى للأجر لمكان لا نعلمه. وكأنهم منزلون ومختصون بتولى أمور هذه الأعمال وحدهم دون غيرهم، باعتبار أنهم يمتلكون مميزات ومهارات خارقة تتيح لهم تلقى هذه الأموال نتيجة ما يبذولونه من جهد مضن فى حضور هذه الجلسات! وبات من عجائب هذا الزمان، أننا نعلم أجر السيد رئيس الجمهورية، والذى تنازل عن نصفه وكذلك نصف ثروته لصالح تحيا مصر، ولا نعلم أجر بقية المسئولين، دون فهم السبب. [email protected] لمزيد من مقالات عماد رحيم