من أبرز أنواع الشعر العربى القديم هو الهجاء، كان المقصود منه هو وصف مثالب وعيوب الشخص المهجو بشكل ساخر يثير ضحك واستهانة من يستمع إليه. كان الشعر العربى خاصة فى الجاهلية ينتقل إلى الناس شفاهة عن طريق الرواة فلم يكن يعرفون التدوين فى ذلك الوقت وقد كان هذا من أسباب البلبلة فى زمن ومكان شعراء الجاهلية. كان العرب يحرصون على حفظ كل ما يستمعون إليه من الأشعار والقصائد ومن هنا كانت خطورة شعر الهجاء. فقد كانت القصيدة من هذا النوع أشبه بالفضيحة الساخرة للشخص المهجو فى حقه فيثير ذلك فى نفسه الضغينة. قصر الجاهليون الهجاء بمعناه الأدبى على شكله الشخصى، فهم لم يعرفوا من الهجاء إلا هذا النوع. وقد نشأ الهجاء عندهم كما نشأ عند غيرهم من الأمم. فكان فى البداية يدور حول المعايب الشخصية للفرد ثم تطور الهجاء بعد ذلك فارتفع عن الأحقاد الخاصة إلى عنصر الحياة العامة فكان منه السياسى وكان منه الأخلاقى وكان منه الدينى. ونحن نختار من بين هذه الأنواع الهجاء الشخصى الذى يتناسب مع موضوعنا وهو السخرية والحط من مكانة بعض الأشخاص. وهذا النوع من الهجاء هو أقدم أنواع الشعر الهجائى العربى. وقد لا يحتاج الهجاء من الشاعر التفكير العميق أو الخيال الواسع ولكنه يحتاج منه إلى عين ناقدة تستطيع أن تقتنص المثالب والعيوب الظاهرة والخفية فى شخص المهجو فى حقه «وتحسن اختيار مواطن الضعف وتعرف أين تضرب فريستها. والهجاء لا يرزق الذيوع والشهرة إلا إذا كان فى لباقة ويسخر من فريسته مداعبا. وهو يسعى إلى ايجاد الشبه بين الشخص الذى يهجوه وبين أقبح الصور التى تثير الضحك والسخرية. ويعتمد الهجاء على التأثير السريع والوضوح البليغ ويتسم أسلوبه بالبساطة وعدم التكلف.» وقد يصل الإسفاف والتدنى فيه أحيانا حتى يصل إلى مستوى النكتة فيتداولها الناس وتصبح مضرب الأمثال مما يثير ذلك غضب الشخص المهجو فى حقه ويطيش صوابه ولو استطاع أن يقضى على قائل الهجاء لقضى عليه حتى يشفى فى ذلك غليله. وقد قضى الهجاء على بعض الشعراء فى الجاهلية والإسلام ونذكر من بينهم ثلاثة من أكبر الشعراء الذين قتلهم شعرهم وهم طرفة بن العبد وبشار بن برد وأبوالطيب المتنبى. طرفة بن العبد لم يشغل الناس شاعر جاهلى كما شغلهم طرفة بن العبد. فهو الشاعر الفتى ابن العشرين أو الغلام القتيل كما كانوا يلقبونه. كان هما شاغلا لعشيرته وأهله وعمرو بن هند ملك الحيرة ورواة الأخبار والأساطير ومؤرخى ودارسى الأدب العربى. فرغم قصر حياته إلا أنها زخرت بالأحداث وفاق شعره كثيرا مما قال غيره من الشعر لما فيه من حكم وآراء تدور حول الحياة والموت. ويفضل بعض الرواة والنقاد القدماء معلقته على سائر المعلقات. يقول عنه محمد بن سلام الجمحي: «إنه أشعر الناس واحدة» ويقول عنه ابن قتيبة: «إنه أشعر الناس طويلة». ولد طرفة فى البحرين فى بيت كريم الأصل والثراء ومات أبوه وهو مازال طفلا. كان يتسم فى صغره بالذكاء وفطر على السخرية والتهكم. ويقال أن خاله جرير بن عبدالمسيح الملقب بالمتلمس كان فى أحد المجالس ينشد شعرا يصف به الجمل وكان طرفة صبيا قريبا من المجلس يلعب مع رفاقه ويصغى لما يقوله خاله. فلما قال المتلمس: وقد أتناسى الهم عند احتضاره بناج، عليه الصيعرية، مكدم الناجى هو البعير والصيعرية اسم توسم به النوق. فلما سمع طرفة هذا البيت حتى صاح: «استنوق الجمل». فأصبح مثلا فى التخليط، وعندما سمع خاله ما قاله الصبى استدعاه وطلب منه أن يخرج لسانه فأخرجه فإذا هو أسود. فقال المتلمس وهو يشير إلى رأس طرفة ولسانه: «ويل لهذا من هذا».. ويقول أصحاب نبوءة مقتله أن نبوءة خاله صحت فيه. وفد طرفة وخاله المتلمس على ملك الحيرة فى أيامهما وهو عمرو بن هند وكان الشعراء يأتونه وينشدون الشعر أمامه فأعجب الملك بشعر طرفة وضمه هو وخاله كنيدمين من ندمائه. وبينما كان طرفة يشرب يوما مع عمرو بن هند أشرفت أخت الملك فرآها طرفة وشبب بها فرفعه الملك بنظرة غضب. فلما خرج من حضرته أخبره خاله بأنه خائف عليه من نظرة الملك ولكن طرفة لم يهتم بذلك. ثم جعله الملك وخاله فى صحابة أخيه قابوس فامتلأ طرفة ضيقا وهجا الملك. وكان لطرفة صهر يدعى عمرو بن بشر وكان من صحابة عمرو بن هند فشكت أخت طرفة إليه ذات مرة زوجها فهجاه طرفة، وخرج عمرو بن هند فى احدى المرات للصيد برفقة عمرو بن بشر وكان الملك مازال ناقما على طرفة. وأصاب الملك حمارا وحشيا فعقره وطلب من عمرو بن بشر أن ينزل عن فرسه ويذبحه، فنزل عمرو بن بشر وعالج الحمار فأعياه ذلك فقد كان سمينا بادنا فضحك الملك وصاح به قائلا: «كأن طرفة رآك حين قال: ولا خير فيه غير أن له غني وإن له كشحا، إذا قام أهضما فرد عليه عمرو بن بشر مغيظا وقال له: «وما هجاك به فهو أشد من هذا ثم أنشده ما قاله طرفة وليت لنا مكان الملك عمرو رغوثا حول قبتنا تخور فكتم الملك غضبه على طرفة وأخذ يتحين الفرص ليتخلص من طرفة وخاله وظل يؤانسهما حتى اطمأنا إليه. وعندئذ دعاهما وقال لهما: «لعلكما اشتقتما إلى أهلكما، وسركما أن تنصرفا؟ فقالا «نعم». فكتبب كتابين إلى عامله فى البحرين وقال لهما: «انطلقا وخذا منه جوائزكما». فحمل كل منهما كتابه وسارا حتى بلغا النجف، فقال المتلمس لطرفة: تعلمن والله أن ارتياح عمرو ولك لأمر عندى مريب وإنى لا أنطلق لصحيفة لا أدرى ما فيها. فقال طرفة: إنك لسيئ الظن وما نخاف من صحيفة؟ إن فيها الذى وعدنا وإلا رجعنا فلم نترك له شيئا. فأبى المتلمس أن يجيبه وعدل إلى حيث رأى غلاما من الحيرة فدفع إليه الصحيفة ليقرأها. فلما نظر الغلام فيها قال: ثكلت المتلمس أمه. (وللحديث بقية...) لمزيد من مقالات مصطفى محرم